مات الساروت


عام ١٩٧٠ هاجرت عائلة سورية من هضبة الجولان تاركة خلفها أرض الأجداد وحيدة على خطوط التماس، كان الوالد يبحث عن بيت صغير في شارع الكرامة فاستقرت به الحال في حي البياضة في حمص.

في بداية العام ١٩٩٢ كنتُ أؤدي الخدمة الإلزامية في جيش النظام وكانت المسافة بيني وبين هضبة الجولان نصف ساعة فقط، لم أكن أعرف حينها أي شيء عن أسباب النزوح سوى أن الناس تبحث عن بيت صغير في شارع اسمه الكرامة، كنت حينها في العشرين من عمري وكانت زوجة ذلك الرجل تّنجب طفلها الخامس في بيت صغير يتألف من غرفتين ومطبخ، فحمل المولود الجديد اسم عبد الباسط.

عام ١٩٩٦ هاجرتُ من سوريا وكان ذلك الطفل في الرابعة من عمره يلعب في شارع الكرامة في حي البياضة، كان يكبر بسرعة بينما كنت أنا المغترب أكبر يبطئ شديد وفي قلبي ندبة تكبر اسمها الحنين. قررت ألا أفكر بتلك البلاد كي أرتاح من الكوابيس التي لازمتني فعشت لسنوات طويلة كأي مغترب لا يفكر سوى بحياته اليومية متجاهلاً حقيبة الهموم في الخزانة وبلاده التي لم تعد جميلة ابداً.

في العام ٢٠١١ وبينما كنت في رحلة إلى الجنوب الإسباني كتبت لي طفلتي رسالة قصيرة كان محتواها:

  •  بابا شوف الأخبار الربيع العربي وصل إلى سوريا 

كانت تعلم بأنني لا اتابع التلفاز منذ "البوعزيزي" الذي أحرق نفسه وترك عائلته تموت من الجوع.

فتحتُ التلفاز وكانت مصر قد غابت عن شريط الخبر العاجل وحلت مكانها سوريا، فرأيت بلدي ورأيت الشموع والمظاهرات المليونية، ورأيت اللافتات الجميلة، / سوريا بدها حرية /.

رأيت ذلك الطفل الذي كان يكبر بسرعة يغني في شارع الكرامة / حانن للحرية حانن يا شعب في بيته مو آمن / 

وصرت لا أفارق التلفاز، أتابع الخبر على عشرات المحطات وأرى أن كل الأطفال هناك يكبرون بسرعة، بينما انا المغترب لا أزال أكبر ببطء شديد كأنني خارج الكون بمسافة سنين ضوئية.

ورأيت ولأول مرة أن تلك البلاد صارت جميلة وتحولت كل شوارعها إلى شارع الكرامة.

ثم توالت الأحداث بسرعة السحر وامتلأت البلاد الجميلة بالغزاة والطغاة، وضاقت الحياة على الناس في ذلك الشارع، وهدمت الأحياء السكنية فوق رؤوس ساكنيها، وانتشرت ظاهرة القناصين وصار الموت أسهل من اتصال هاتفي، وبدأ الماراتون السوري عبر البحار والغابات، وانتشرت المخيمات على امتداد القارات هرباً من عصابة تقتل الناس بالبراميل على مرأى من اعين العالم، ورأيت ذلك الشاب عبد الباسط يظهر في حي بابا عمر في حمص ويغني / جنة جنة /، ويوجه النداء للإنسانية بأن الناس جياع، وهناك جرحى يموتون في الشوارع دون أن يتمكن أحد من إسعافهم خوفاً من القناص، وأن المشافي الميدانية تقصف، وانهم لم يبق أمامهم من خيار سوى الموت .

السنون مرت بسرعة وجاءت بكل الأخبار السيئة دفعة واحدة، وما من يوم يمرّ إلاّ وهناك مائة شهيد على الأقل، وفقدنا الامل بعد أن أدركنا أننا ضعفاء أمام محاربة العالم كله.. 

رأيت الدابي والابراهيمي والعنان وفرق التفتيش العربية، وتأسيس الجيش السوري الحر بقيادة الهرموش، ورأيت رموز المعارضة المخيبين للآمال وتابعت جنيف واسطنبول وأستانة وسوتشي، وقلق بان كي مون والباصات الخضراء وصواريخ سكود التي كانت تنطلق من القلمون متجهة نحو حلب ورأيت المجازرفي الحولة وداريا وكرم الزيتون والبويضة ودارة عزة وعقرب وجديدة الفضل وخان العسل وتدمر والسلمية، ورأيت القتل العام 

فتركت التلفاز بعد تعرضي لحالة إحباط شديد.

قلت لنفسي لم تعد جميلة تلك البلاد، إنها تعيش البشاعة، ولم أعد أفكر بشيء سوى بأن لا تموت الناس بهذه الطريقة.

في العام ٢٠١٩ وقبل أيام كتبت لي طفلتي:

  •  بابا شوف التلفزيون في حدا مشهور مات 

فعدت للتلفاز بعد غياب عامين ورأيت صورة ذلك الطفل الذي هاجر والده من هضبة الجولان فأنجبته أمه في شارع الكرامة في حمص داخل بيت صغير مؤلف من غرفتين ومطبخ، وعرفت بأنه مات.

مات حامل الألقاب، بلبل الثورة وغيفارا سوريا وحارس الكرامة.

مات رفيق فدوى سليمان.مات بطل فلم العودة إلى حمص. 

مات الذي خصص النظام مكافأة مالية كبيرة مقابل رأسه.

مات الذي صار كبيراً في عمره القصير. 

مات الذي دفعته المحنة نحو الجهاد. 

مات الطفل الذي وقع بعفويته في بعض الأخطاء. 

مات على مقربة من مدينته.

مات الذي حمل نجوم الثورة عنا.

مات الذي أصر على البقاء. 

مات الساروت

غادر المونديال وستبقى الكأس له. 

مات ابن الخنساء السورية. 

مات العزيز خامس الشهداء الساروتيين. 

وبقيت أغانيه ليرددها الأجيال 

حانن للحرية حانن 

يا شعب في بيته مو آمن.

 

 

  محمد سليمان زادة

شاعر وكاتب سوري

 
 
Whatsapp