سورية: لعنة وطن، أم لعنة الجغرافيا


سورية ومنذ نشأتها كجغرافيا كانت قبلة لأهل الفكر وممراً للطامعين ببلاد الشام، فقد كانت تمثل البوابة نحو واحة ولادة الأديان وموطن الأنبياء، وكذلك مدرسة للعلوم وملتقى للشعوب والحضارات التي تركت بصماتها الإنسانية عبر التاريخ.
لكنها لم تهنأ ولم تستقر أمام الطامعين وغزوات الغرباء، كانت بلاد الشام عبر التاريخ، وسورية روحها التي تغنى بها الشعراء والأدباء والفنانين، امتلكت حياءً كتلك الملكة التي تخلت عن تاجها لاحتضان عشيقها نبلاً ووفاءً، وباتت كالأم التي تغطي رضيعها وتحفظه من ضربة العيون، هي سورية الساحرة التي امتزج ترابها بعرق أبنائها الذين دافعوا عن كبريائها وعذريتها، أمام كل الغزوات والطامعين، لحسنها وجمالها وسر امتزاج عناصرها الفسيفسائية، التي عجز العلماء عن فك تركيبتها المعقدة، فهل في ذلك ريب، أو نوع من المبالغة عندما نضع جزيئاتها تحت المعاينة الدقيقة لنرى كل أبجديات البشرية على صفحة واحدة متمازجة، لتحكي عن التاريخ والحضارة وسر الارتباط بين الأنبياء والمرسلين مع الإله الواحد الأوحد؟
إنها سورية ولؤلؤتها دمشق التي أبهرت كل من مرّ بها فاستوطنها وأخذ منها معاني لوجوده، وتبحّر في علومها ومعرفتها، التي تنافست مع مياه (فيجتها) العذبة.

 إنها دمشق التي ترعرع فيها (صلاح الدين) وشرب من مائها، وامتزجت دماؤه السارية في عروقه برحيق ياسمينها، لتكون تلك العشيقة التي تستحق التضحية، من أجل الحفاظ على الجمال، فجعلت دمشق من (صلاح الدين) قاهراً للصليبيين ومحرراً أولى القبلتين، التي تشكل للشآم مفخرة، إنها الواحة التي جعل الله منها منطلقاً للأنبياء والرسل، فكانت جوهرة سورية.
هذه الأيقونة العالمية لم تر ما تستحق من البشرية من عناية سوى أن الأطماع تتزايد لخطفها والنيل من كل معانيها الوجودية، وإن راجعنا تاريخ هذا البلد الجميل بجغرافيته وموزاييك أبنائه الذين ولدوا فيه ليكونوا مغايرين عن غيرهم من البشرية في العطاء وحسن الأداء، ما يجعلنا نتساءل: هل استحقت قدسيتها كل ذاك البلاء الذي لحق بها عبر التاريخ لتكون برهاناً على أنها أغلى من روح البشرية، وبالتالي تستحق أن تزهق الأرواح لتكون قرابين لعظمتها؟ أم أن للجغرافيا لعنتها، تنزل على أهلها ليكونوا قرابين خطاياهم بحق القديسة التي لم تلق من أبنائها ما تستحق؟ أم لعنة وطن؟
لن أعود إلى التاريخ، ويكفينا تقليب صفحات من حكموا هذه البلاد من أبنائها بعد دحر الاستعمار الفرنسي وتحرير سورية، لتكون وطناً وبلداً ودولة لأبنائها وملكاً يتصرف فيه السوريون بحرية، في كل المجالات، وبناء صروح حضارية، لتعود سورية إلى مكانتها اللائقة بعد التصحر الذي فُرِضَ عليها.
يعد رحيل الاستعمار استبشر السوريون خيراً، ليعملوا بكل إمكانياتهم الخلاقة من أجل البناء واللحاق بالحضارة العالمية، فأخذوا من الديمقراطية سبيلاً للحكم والإدارة في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، حيث وصفت سورية ب (سويسرا الشرق)، إلا أن العابثين والطامعين تجاوزوا المبدعين والصادقين في الوطن، فانقلبت سورية من جنة على الأرض إلى جهنم تكتوي بنارها أجساد أبنائها المخلصين، بعد أن وقع الحكم بيد العسكر وكأنهم غرباء عن هذا الوطن (محتلين وليسوا حاكمين لأهلهم).
ستون عاماً من الحكم جعلنا نترحم على فرعون أيام زمانه، حيث لم يبق أي معنى من معاني قدسية سورية ورونقها، أبعدوا سورية عن كل جميل وجعلوها سجناً مزينة جدرانها بدماء أبنائها المخلصين والأبرياء، شوهوا كل المعاني التي كان السوريون يفتخرون بها، حتى باتوا اليوم يفتقرون لكل ما هو مفخرة لهم، بعد ذلك جاءت اللعنة الكبرى، لعنة الحرية والكرامة!!
بعد ثمانية أعوام ونيف من عمر ثورة الحرية والكرامة نتساءل: ألا يحق لنا أن نكون أحراراً نمتلك الكرامة على أرض وطننا بعد كل هذه العقود الطويلة من المذلة والإهانة وخنق الأرواح؟ ألا يحق لنا أن نكون على مستوى من الحياة التي نرى أنفسنا فيها بشراً نقرر مصيرنا كيف نعيش، وكيف نحب، ونقرر كيف ننتمي إلى وطن، ولدنا فيه وترعرعنا مع تنوع أديانه وأعراق أبنائه.؟
لماذا كل هذا الحقد على هذا الوطن وأبنائه من الأبرياء؟ ألا تكفي كل هذه القرابين لتكون ثمناً لوطن يتحرر من الطغاة وهولاكو هذا العصر، وعربوناً لحرية وكرامة أبناء هذا الوطن.؟ أم أن اللعنة ماضية ومستمرة، طالما أن جغرافية سورية لها ما لها من القدسية تستوجب من الظالمين أن تلحق بها كل هذه المآسي عبر التاريخ.!؟

 

 

أحمد قاسم 

 رئيس القسم الكردي

 
 
Whatsapp