حنين إلى الذات المبتورة


 

 

هل تريد أن أجلب لك شيئاً من سوريا. سألني بلهفة صادقة، وبابتسامة ودودة خفيفة لا أثر للتكلّف فيها.

سلامتك يا علاء لا تنس أن تكون حذراً وأن تنتبه لحالك. 

كنت أرغب أن أقول أيضاً: ماذا لو رافقتك لزيارة والديك فأنا فقدت أبي وأمي منذ زمن بعيد وأشعر باليتم. ثمّ لم أدر كيف خفق قلبي بعنف حين أردفت: 

لا بأس إن أتيتني بقليل من تراب ضيعتك. 

أردت لعبارتي الأخيرة أن تبدو لصديقي مزحة مفتعلة لكنني لم أفلح، وشعرت بنفسي سمجاً ومسكيناً يستحق الشفقة.

هل علينا أن نخجل من أشواقنا لسيّدة الروح والقلب سوريا، وان نكفّ عن الحلم بوطن حرّ يحتفي بإنسانه ويزهو بسيادة العدالة والكرامة في أرجائه!؟ لن يكون حلمنا هروباً ولا لجوءاً آخر، كما أنه ليس محاولة للحصول على فضاء ندفن فيه وجداننا المعذّب.

أحاول أن أجد تفسيراً لتلك القدسيّة التي نحملها، أو ربما نمنحها، للتراب، ولذاك الشغف بالمكان الذي استقبل شهقة حياتنا الأولى، وشهد لثغاتنا وحبونا وخطواتنا المتعثرة. تلك البقعة من الجغرافيا الضيقة حيث ولدنا وعشنا حياة قد لا نرغب في استعادة كثيرٍ من تفاصيلها، لكننا بالتأكيد نتوق بشدّة لاستكمال سيرتها منذ تلك اللحظة التي توقفت فيها وعندها. 

هناك من يعتقد أن الذاكرة هي الوطن، وأنه طالما لم تتشكل لدينا حصيلة جديدة من الذكريات تحلّ محلّ تلك القديمة وتدفع بها للضمور والاضمحلال، فإننا سنبقى أسرى وهمٍ مضى وانقضى بمضيّ زمنه وانقضاء حوادثه، ولم يتبق منه سوى شريط لظلال باهتة سيكون مآلها للتلف. 

ربّما الوطن، كما يقول آخر، حكايتنا وما يرويه كلّ منا عن بيته وحارته وأصدقائه ومدينته!؟ سيكون لدينا إذاً أوطان كثيرة بعدد رواياتنا وسرديّاتنا المتراكمة، وهي بالتأكيد ستنال حظها من المبالغة والتزيين، وسيصيبها التآكل والتغيير لتغدو مجرّد صورة في إطار تستجدي اهتمام عابرٍ مستعجل أو فضوليّ كسول.

وثمّة من يرى أنّ الوطن مسكن يرتّب على المقيم فيه حقوقاً وواجبات بمقتضى عقد تحددّ شروطه "إرادة" المتعاقدين. لا شكّ في أن اختزال صيغة المواطنة بهذا المعنى يخفي تواطئاً أخرس يدفع بالعلاقة بين الأمّ ووليدها لتأخذ شكلاً تعاقديّاً نفعيّاً أشبه بما هو كائن بين تاجرٍ ومقاول، تغيب عنه المشاعر ويفتقد للروح وفضاءاتها.

الوطن علاقة تكاملية وشراكة حياة. لن يكون بحالٍ شركةَ استثمار تحكمه هرميّة وظيفية، وتتحكم به صيغة تنافسية يسعى أطرافها إلى ممارسة كلّ أشكال الضغط، وربما الابتزاز، للخروج منتصراً من صراع، بل وحرب هدفها تحقيق الغلبة وتحقيق المكاسب الفرديّة. 

الوطن حرّية. إنّه جدليّة التحرّر والانعتاق من علاقة براغماتية نفعيّة إلى علاقة مبنية على الحبّ، من ارتباط قائم على تبادل المصالح إلى اندغام تتوحد فيه الإرادات وتمتزج الرغبات. يسابق كل طرفٍ فيها الآخر ليقدّم أقصى ما لديه من ممكنات العطاء دون انتظار لمقابل. سيكون من العسير حينها تصور ما يثمره زرع الحبّ وسيفيض الخير على الجميع لينال الأبناءُ غامر ما تمنحه الأمّ.  

لعلّ الوطن كل تلك الرؤى وغيرها، سكن وأهل وأصدقاء، ذاكرة كلّ منّا وحكايته الأجمل عن جنّة تسع جميع الأخيار المحبين، لكنّ الوطن أيضاً سماء وأرض، بحر وأنهار وموسيقى..، كيف لا يكتسب الرفعة والسموً وقد انهمرت من أزرق غيمه أرواحنا، كيف لا يكون له هذا الجلال وقد شكل ترابه مضغتنا الأولى ومنحنا الوجود والهويّة. 

يحمل السوري وطنه في صبغيّاته وجيناته أينما حلّ أو ارتحل، فأديمه جسده وسماؤه روحه، وهو في حنينه إلى سوريا إنما يحنّ إلى ذاته المبتورة. إنّ تهجيرنا، نحن أبناء الأرض، جريمة قتل، يمارسها الطغاة والمحتلّون بحقّ الإنسان والأرض عبر انتزاع خلاياها واستئصال جذور الحياة فيها.

في مخيلتنا تبزغ صورة مبهرة لرغباتنا المخاتلة نحاول تثبيتها في مرآة أرواحنا، تطرق زجاجها الرقيق مطارق الواقع الصادم، سنعي حتماً أنّ الماضي صورتنا الكالحة وأنّ الحاضر ظلالنا القلقة المضمّخة بالدم، وأنّ المستقبل الأخضر وحده ما يستطيع أن يجنبنا رغبة عارمة في الموت.

 

 

علي محمّد شريف

رئيس القسم الثقافي

 

 

 
Whatsapp