القلعة


 

 

 

 

طردني صاحب الكرش الكبير، والأسنان الصفراء من أمام باب محله. 

-    مشِ من هنا يا ولد.. يقطع عمرك قطعتَ رزقي.

-    الأرزاق على الله. أجبته. 

بقامتي الضئيلة وهيكلي العظمي الشجارات غير مضمونة النتائج، فقد ينكسر لي ضلعٌ، أو أفقد سناً. وضعته في قائمة المعارك المؤجلة فور أن أكبر قليلاً سأحرق حانوت ذلك السمين الذي قاطع ساعديه فوق صدره بانتظار تنفيذ أمره. تذكرتُ النصيحة: إن لم تضرب اشتم.. لا تكن جباناً.

حملتُ صندوقي الكرتوني حيث تتكدس تشكيلة من علب العلكة، وأنواع الدخان، وولاعات ملونة رخيصة، وعبوات محارم صغيرة. رجعتُ إلى الخلف مسافة قدّرت أنها تكفي لحمايتي من بطش يده. مددت لساني، وقبل أن أطلق ساقي لتسابقان الريح أطلقت شتيمتي: يلعن أبووووك.

العثور على مكان بعيد عن أرزاق الآخرين ليس سهلاً، مشيت لساعات متحاشياً الدكاكين ومداخل الأبنية ورفاق المهنة من أصحاب الصناديق مثلي إلى أن وصلت الساحة العامة. منطقة تعج بالمشاة، تقع على بعد خطوات من تقاطع مروري لشارعين، اخترت الوقوف تحت لوحة قماشية تخفي عني شرفات فندق قديم، وتحجب جزءاً غير مهم من زرقة السماء. 

لم تسترع اللوحة اهتمامي كنت أكتفي بظلها الذي ينعكس منتصف كل ظهيرة ليرسم على الأرض شراع سفينة، فأتخيل نفسي قبطانها. لا تنقصني سوى القبعة. 

اكتشفت مع الوقت أنني محظوظ فاللوحة نقطة التقاء يستدل بها الناس. يقول أحدهم: نلتقي عند اللوحة.. أو ما زلت أنتظرك هنا، ويقصد المكان حيث أقف، هذا عدا عن مجموعات صغيرة من رجال طوال القامة ونساء شقراوات، وعجائز بوجوه مجعدة أستغرب كيف تحملهم أقدامهم.

تبدو لهم لوحة مهمة يلتقطون صورها، فأستغل الفرصة كي يشتروا مني، أستعطفهم بإلحاح ليشتروا شيئاً من بضاعتي. بعضهم يربت فوق كتفي بشفقة، وبعضهم يلتقط لي صوراً أحاول جهدي أن أبدو فيها وسيماً، فأنا لا أملك صورة لي رغم أني في العاشرة من عمري. 

سرعان ما ينسون أمري وأمر صندوقي، فأصغي إلى تعليقاتهم: "إنها رمز لعراقة التاريخ.. مرت عليها أقوام الإغريق والبيزنطيين والمماليك والأيوبيين.. سكنها العظماء والقادة والأمراء.. كانت منيعة على الغزاة بجدرانها الصلبة ونوافذها الضيقة.. بابها المتين بُني كي لا يواجه الأدراج الموصلة إليها.. الخندق العميق حولها يُملأ بالماء وقت الخطر.. يلوذ بها سكان المدينة الخائفين من خلال أنفاق سرية توصلهم إليها" 

إغريق.. غزاة.. بخندق أو بدونه ليس شأني، فكل ما يهمني من تلك اللوحة ملاحقة ظلها كي أنجو من لهيب شمس حولتني إلى اللون الخبز المحروق.

في إحدى صباحات أوائل الخريف وقفت سيارة نزل منها رجل أربعيني بلحية خفيفة ومنديل معقود حول رقبته، ألقى عليّ نظرة طويلة لم أستطع تفسيرها، ثم أشار إلى السائق.

خلال دقائق، انتصب حاملٌ خشبيٌ بأرجل ثلاث، علقَ عليها مجموعة أوراق كبيرة، وفوق منضدة صغيرة تشبه صندوقي اصطفت مجموعات من الأقلام والألوان والفرش.. 

انقبض قلبي، هل سيطردني ويحتل مكاني؟ ماذا لو عرضت عليه شراكتي فبضاعته مختلفة عن بضاعتي! 

انتظرت أن يبادرني الكلام، ولكن الرجل الذي قضى ساعتين يدخن ويتأمل اللوحة، لم يهتم بي كما لو كنت شبحاً، وعندما غادر حاملاً بمساعدة السائق بضاعته التي كدسها ثانية داخل صندوق السيارة من غير أن يبيع قلماً واحداً تنفست بارتياح، فليس سوى رجل غريب الأطوار. 

تكرر ظهوره كان يجلس فوق كرسيه الصغير كتمثال خشبي إلى أن باشر بالخربشة بقلم الرصاص فوق الأوراق. دفعني فضولي لإلقاء نظرة. نهرني قائلاً: 

  • اياك أن تقترب، أريد أن أرسم بهدوء.

  • ما الذي تريد رسمه؟

  • القلعة. ستكون قطعة فنية تتنافس لعرضها متاحف ومعارض أوروبا. 

حينها فقط رفعت بصري. كانت صورة كبيرة ملونة مشدودة بحبال متينة طُبعت عليها صورة القلعة. أعرفها إنها قلعة حلب. سألته:

  • ولمَ لا ترسم القلعة الأصلية.

كان مشغولاً بخلط الألوان، قال من بين أسنانه حيث قبعت الفرشاة. 

  • لأن ما بقي منها لا يكفي لرسمها أيها الجاهل الصغير. 

ابتعدت عنه وعنها. لست جاهلاً كما يظن، قبل أن أترك المدرسة وأشتغل ببيع القداحات قال لنا الأستاذ ذو القبة المنشاة أن أجدادنا الأوائل سكنوها، ولكني لا أظن أن جدي أبي نوفل أو أحد أقربائه اقترب منها، فهي أكبر بكثير من أن يسكنها أحد.

منذ شرفني الرسام ذو الطباع المريبة لم أعد أجني الكثير من الليرات، وأضطر لالتزام الهدوء كما يرغب، ومع الوقت صرت أركض لأشعل له سيجارته، وفي المقابل كان يعوضني بحفنة من البزر واللوز والبندق المحمص، أو يقدم لي سندويش شاورما بالمايونيز والمخلل، رفضت بإباء عزيمة الفلافل وقلت له: تقرحت معدتي منها. فاشترى لي لوحين من الشوكولا، وفطيرة محشوة بالجبن. وهو أمر لن أحسد نفسي عليه. 

توطدت علاقتنا خاصة عندما خلع جوربيه في نهار بارد وأصر أن ألبسهما. طقطق أصابعه وسألني: -أين أهلك يا صغير؟

هدمت الطائرات منزلنا، وفقدت أسرتي، صرت آوي في الليل إلى الحدائق ومداخل العمارات وفي النهار أسرح بصندوقي، لكني لست مضطراً لسرد حياتي لغريب بسبب جوربين صوفيين، أليس كذلك؟ 

أجبته: أبي مسافر وأمي متوفية. أعيش مع جديّ. 

أراقبه يغطس ريشته بالألوان ويمسحها بقطعة قماش، تخليت عن رغبتي في أن أكون قبطاناً وصرت أتمنى لو أصبح رساماً. تعلقت به. كان يسليني. 

انتهت لوحته، وقبل أن يودعني، شدني من ذراعي ووضع كفيه مفتوحتين فوق أكتافي لأقف في مواجهة الحامل الخشبي. سمح لي بالنظر. 

رأيت بشرتي الداكنة وصندوق بضاعتي، أما القلعة فبدت خلفي كخطوط باهتة منسية. 

 

 

سوزان خواتمي

كاتبة وصحفيّة سوريّة

 

Whatsapp