أدعياء على حافّة الهاوية


 

لقد قال أحد الباحثين إنّه يتحدّى أيّ مثقف أن يقف أمام خمسين ألفاً من الجمهور بعد مباراة بكرة القدم وأن يستحوذ على أذهان الناس ومشاعرهم لمدة خمس دقائق. لقد نجح الدعاة الجدد في خوض تلك التجربة، وتمكّنوا، بالفعل، من الاستحواذ على انتباه الناس والإصغاء إلى ما يقولون. 

ولكن كيف تمكّنوا من فعل ذلك؟ لقد اتّصف معظمهم بصفات الداعية الناجح الذي استوعب حاجات الناس الفكرية والروحية في العصر الحديث، فضلاً عن تمكّنه من حيازة الصفات التقليدية التي نذكر منها الرفق واللين، قال الله سبحانه وتعالى لأفضل الخلق رسوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ آل عمران 159.

 أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها، فقد أوضحها الله جلّ وعلا في آيات كثيرة، في أماكن متعددة من كتابه الكريم. وعلى الداعية، كي ينجح، أن يكون مخلصا لله، لا يريد رياءً ولا سمعة، كما قال سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ يوسف 108. ولابد من العلم، فعلى الداعية، أن يتبصّر فيما يدعو إليه، فإن ظهر له الحق وعرفه دعا إلى ذلك، سواء كان ذلك فعلاً أو تركاً، فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله، ويدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بيّنة وبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ يوسف 108. وهكذا تتكون القدوة الصالحة فيما يدعو إليه، فلا يكون كمن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ الصف (2 ـ 3).

 الداعية الناجح هو الذي يعتني بالدليل، ويصبر على الأذى، ويبذل وسعه في الدعوة إلى الله، مهما تنوّعت الإغراءات، ومهما أصابه من التعب، ولا يَضعف من أذىً أصابه أو من كلمات يسمعها، بل يجب أن يصبر ويبذل وسعه في الدعوة مستفيداً من جميع الوسائل، ولكن مع العناية بالدليل والأسلوب الحسن، حتى تكون الدعوة على أساس متين يرضاه الله ورسوله والمؤمنون. ولْيحذَرْ من التساهل حتى لا يقول على الله بغير علم، فيجب أن تكون لديه العناية الكاملة بالأدلّة الشرعيّة وأن يتحمّل في سبيل ذلك المشقّة في كونه يدعو إلى الله عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق التعليم، فهذا هو الداعية الناجح والمستحقّ للثناء الجميل والمنزلة العالية عند الله تعالى، إذا كان ذلك عن إخلاص منه لله. ولهذا يدعو الشيخ الغزالي إلى توسيع دائرة الثقافة لدى الداعية، يقول: "إن الداعِيَة المسلم في عَصْرِنا هذا يجب أن يكون ذا ثَرْوَةٍ طائلة من الثقافة الإسلاميّة والإنسانية؛ بمعنى أن يكون عارفاً للكتاب والسُّنَّة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلاميّة. وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مُلِمّاً بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة، والثقافات الإنسانية المُعاصرة التي تَتَّصِل بشتَّى المذاهب والفَلْسَفات.. لأنهم القدوة والأساس في الدعوة إلى الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فصّلت 33. هذه الآية تبيّن أهميّة أن يكون الداعية ذا عمل صالح، يدعو إلى الله بلسانه، ويقرن القول بالفعل وَعَمِلَ صَالِحًا ليغدو قدوة صالحة في القول والفعل". كثير من الذين يوجّه الخطاب إليهم ينتفعون بسيرة الداعية أكثر مما ينتفعون بأقواله، وهم يقتدون بأفعاله وأقواله وسيرته، ويفرحون به عندما يذكّرهم ـ كل حين ـ أنه على المنهج الأسمى، على الحق، يقول هذا معتزاً به وفرحاً مغتبطاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ لذلك نجد لدى كثير من الدعاة لوازم خاصة بهم (سبحان الله ـ الحمد لله ـ صلوا معي على الحبيب المصطفى)... وغيرها من اللوازم التي يرتاح إليها المتلقّي. يقول لازمته بغبطة عن إيمان بما يدعو إليه حتى يعلم المدعوون أنّه على بيّنة، وأنّه على طريق واضح ومنهج سليم. بعض المدّعين الذين يتشبّهون بالدعاة قد يدعون إلى شيء وهم على خلافه، لكنهم يدعون إليه إما لمالٍ أو منصبٍ أو رياء، وهذا يتّضح للمتلقّي بسهولة، لأن مالا يخرج من القلب لا يمكنه أن يصل إلى القلب.

نحن، جميعاً، دعاة إما إلى مَلْبسٍ أو مأكل أو مشرب أو تسوّق، نُقنِع ونجادل وندافع وكأننا شركاء لأصحاب هذه الأماكن، وإذا تعلّم أحدنا طريقة جديدة في أي شيء، ثم مهر فيها فإنه يتحول إلى داعية لتلك الطريقة، يعلّم من يحب لهم الخير، فالدعوة إذاً دلالة على المحبة، فما بالك بالذي يدعو إلى الله. 

استجدّت أمور إثر الانتفاضات في بعض البلدان العربية، فانكشف الغطاء عن كثير من الدعاة ودخلوا خانة الأدعياء، واتّضحت أدوارهم في نصرة الطغاة لتحصيل مكاسب سلطوية ومالية.

 

د. محمد جمال طحان

كاتب وباحث سوري

 
Whatsapp