عودة الإسلام


 

سنة 1981 وكنت حينها طالباً في جامعة دمشق وعلى علاقة جيدة مع زملائي الفلسطينيين الذين كانوا في غالبيّتهم منخرطين بالعمل السياسي ومنضوين في المنظمات الفلسطينية الرئيسة، وكانت تدور بيننا حوارات عميقة عن طبيعة الصراع العربي الصهيوني.

في تلك الحقبة الزمنية العصيبة من تاريخ سورية الذي اتسم بالصراع ما بين النظام والأخوان المسلمين، ووقوف النظام بجانب إيران في حربها ضدّ العراق، والخلاف مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير في لبنان، كانت تصلني من الشباب الفلسطيني مجلّة "شؤون فلسطينية" التي يصدرها مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت. وكان المركز الذي تأسس عام 1965 من أبرز إنجازات منظمة التحرير وأخطرها على الكيان الصهيوني، لما كانت تحتويه مكتبته من وثائق غاية في الأهمية والسرية، استطاعت منظمة التحرير جمعها من خلال علاقاتها الواسعة في معظم العواصم، حتى أصبح المركز يحتل مبنى من خمسة طوابق في بيروت الغربية، عندما صدر العدد الأول من المجلّة في مارس/آذار 1971  ، وكان يرأس تحريرها آنذاك د. أنيس صايغ لغاية 1977 ليخلفه الشاعر (محمود درويش) لمدة سنتين ثم تسلّم رئاسة التحرير (صبري جريس)، ونظراً لأهمية المركز ومحتوياته والمواضيع التي كانت تتناولها المجلة كان في مقدمة اهتمامات الموساد الإسرائيلي، حيث قامت وحدة من الجيش الإسرائيلي بمحاصرة المبنى فور اجتياح بيروت 1982 ومصادرة جميع محتوياته ونقلها بشاحنات عسكرية مباشرة إلى تل أبيب.

أعود إلى مجلّة "شؤون فلسطينية" ، وما كانت تحتويه من معلومات قيّمة وعلى قدر كبير من الأهميّة، وخاصة تلك التي تستند إلى وثائق سريّة مسرّبة من وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA )، ومازلت أتذكر تلك الوثيقة التي تتحدّث عن العدو الحقيقي الذي يقف بوجه المخططات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط ويهدّد وجود إسرائيل، ألا وهو الإسلام، وقد وضعت الدراسة آلية زمنية لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في المنطقة، تبدأ من احتلال عاصمة الخلافة العباسية وتدمير الحضارة الإسلامية في العراق، ومن ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي احتلال عاصمة الخلافة الأموية وتكرار ما حدث في العراق والقضاء على كل ما يمت للإسلام بصلة، لينحسر إلى منطقة نجد والحجاز في الجزيرة العربية ويبقى محاصراً هناك كما بدأ منذ خمسة عشر قرناً، وما لفتني يومها ذلك التعبير الذي ورد في الوثيقة وهو " عودة الإسلام إلى قمقمه"، لتصبح مكة والمدينة المنورة هي كل ما يتبقى من الدين الإسلامي بعيداً عن شعوب المنطقة، لتكون مركزاً دينياً على غرار حاضرة الفاتيكان.

تلك كانت خلاصة دراسة من أحد مراكز الدراسات الأميركية المقدّمة لوكالة المخابرات الأمريكية (CIA )، التي على الرغم من خطورتها وأهميتها إلّا أنّه لم يكن هناك من أحد في تلك الأيام يصدّقها وأنا منهم، وكنت أعتبرها نوعًا من التخاريف تدغدغ عقول من يؤمنون بنظريّة المؤامرة، ولكن بعد غزو العراق من قبل القوات الأميركية 2003 وتسليمه لإيران لتدميره وقتل السنة بحجّة اجتثاث البعث ومن ثم الانتقال إلى حرب الميليشيات الطائفية الشيعية بذريعة الدفاع عن المقدّسات الشيعية والثأر من قتلة الحسين، لتبرير عمليات القتل والتهجير للملايين من العراقيين من أهل السنة وتدمير منازلهم ومساجدهم وتحويلها إلى حسينيات، أمام أعين الأميركان وبدعم مباشر منهم.

يعود المشهد ذاته ليتكرّر في سورية ولكن بأيدي بشار الأسد ونظامه، وبدعم إيراني وروسي مباشرين، وماتزال عملية الذبح والتهجير جارية حتى يومنا هذا، الأمر الذي جعل فكرة المقال القديمة تعود لتلحّ علي في الكتابة عنها وفضح ما يخطط له الأميركان لأمتنا، فكل مشاهد تدمير المساجد والمجازر والقصف على المدن والبلدات بشتى أنواع الأسلحة، ما كانت حرباً على الإرهاب بقدر ماهي شهادة "حسن سلوك" يقدمها النظام لراعيه الصهيوني في البيت الأبيض وتل أبيب، وقتل الغالبية "السنيّة" لم يكن اجتهاداً من النظام وإنّما تنفيذاً لأوامر مشغّليه.

ولتكتمل الصورة وتتضّح أكثر لما جاء في الوثيقة المسرّبة، لننظر ماذا يحصل في المملكة العربية السعودية والقرارات التي يدفع بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، التي جاءت متزامنة مع الحرب ضدّ الشعب السوري ولا يمكن فهمها إلّا في سياق الحرب على الإسلام، فالسماح للمرأة بقيادة السيارة، وتأسيس الهيئة العامة للترفيه مقابل التضييق على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصولاً إلى إلغائها، واعتقال الدعاة بحجة الغلوّ والتطرّف، وفتح دور السينما ومراكز الديسكو "الحلال"، كلّ ذلك يوحي أنّنا نسير حثيثاً باتجاه ما كانت ترمي إليه تلك الوثيقة، وبات لزاماً علينا أن نعيد النظر في كلّ ما يجري حولنا ونحدّد وبشكل حاسم طبيعة الحرب القائمة ومن هم أعداءنا المحتملين.

 

 

ياسر الحسيني

كاتب وإعلامي سوري

 
Whatsapp