الحرية بمواجهة الإبادة والجحيم


 

 

 

لعل القدرة على التفكير الاستراتيجي والاستشراف تقتضي تجاوز الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية والسعي الدؤوب لوضعها في سياق تاريخي أعم وأشمل وذو بعد مستقبلي.

هل الصراع الذي يعيشه العالم المعاصر وعلاقته بتوزيع القوى بين الدول والأمم والقارات، ويحاول استشراف مستقبل نمط توزيع القوى السياسية والاستراتيجية في مستقبل سيخلو من الإمبراطورية واحتكار القوة والعلم؟ 

بمحاولة الإجابة لا بد من الغوص في مراحل التاريخ السياسي والاستراتيجي المتعاقبة، لنرى له نمطاً متواتراً لصراع القوى، ثابتاً في الأسس والجوهر، ومختلفاً في التفاصيل والظلال والأبعاد. وجوهر المسألة ذو بعدين لا انفصال لهما في الواقع هما: 

- الاستعمار: كحركة توسع وتسلط. - وصراع القوى الاستراتيجية: كعملية بقاء أو تضخم.

لكن يظل التمييز بين ظاهرة التوسع الاستعماري وظاهرة صراع القوى الاستراتيجية تمييزاً مهماً لفهم العالم القديم والمعاصر.  وفي سياق الظاهرة الاستعمارية الأوسع فإن الصراع الأوروبي الحديث ليس سوى جولات دامية ودرامية ولقاءات عاصفة هوجاء ومريرة ترجع إلى العصور القديمة مروراً بالحروب الصليبية في العصور الوسطى. والعالم العربي، بمعناه الذي يضم قطاعات من العالم الإسلامي خاصةً تركيا، هو المنطقة الوحيدة خارج أوروبا التي تُعد نداً لتلك الظاهرة، تاريخياً وحضارياً، وكذلك من الناحية السياسية والعسكرية ومن حيث القوة، ولقد مثل المنطقة التي كانت في وقت ما القوة العظمى الأولى، وأحرزت لنفسها السيادة العالمية قروناً وأجيالاً، وأخضعت مناطق شاسعة خارجها بما في ذلك أجزاء من أوروبا نفسها، وهو، إلى جانب أوروبا، المنطقتان الوحيدتان اللتان تنازعتا أو تناوبتا أو شاركتا في السيادة العالمية عبر التاريخ وفي تأسيس الإمبراطوريات والفتح والتوسع السياسي، فضلاً عن خلق الحضارة الراقية بالمعنى المفهوم. ولهذا كان اختراق العالم العربي هو التحدي الأكبر للاستعمار والإمبريالية، وبدونه لا تكتمل له السيادة العالمية حقاً، وبه وحده يتحقق تتويج زحفه، وبالمقابل، لم تكن مصادفة أن تبدأ نهاية الاستعمار بشكله التقليدي في المنطقة وأن يكون مقتله على يدها.

يتبين لنا كيف أن الموجة الحديثة للاستعمار الأوروبي كامتداد للحملة الصليبية وتصفية للحساب مع العالم العربي وكيف أن هذه المسحة الدينية للاستعمار عادت لتُكرر وتؤكد نفسها مع آخر وأدنى موجة من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث في المنطقة وهي الاستعمار الصهيوني القميء. وأن عداء أوروبا الاستعماري يحمل روحاً صليبية وطائفية في الدرجة مع عالمنا "العربي والإسلامي"، فالفارق الأبرز بين أوروبا والعالم العربي هو الدين لا اللون، ويأتي الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة باسم إسرائيل، كحالة من الاستعمار مكنت له وخلقته فقط تلك القوى الاستعمارية الأوروبية، فبدايات الحركة الصهيونية عاصرت آخر موجة كبرى من موجات الاستعمار الأوروبي الحديث، وتحققها كان معاصراً مع نهايات عصر الاستعمار بوجه عام.

هذه حقائق علمية تاريخية وجغرافية لا تخطئها العين، وتُظهر إسرائيل علمياً وموضوعياً على حقيقتها بالنسبة لكل مهتم بالجغرافيا السياسية؛ وأن الصهيونية ليست سوى حركة سياسية تعلقت بأذيال الموجة المدارية الاستعمارية لتركبها وتستثمر المناخ السياسي الاستعماري وصولاً إلى تحقيق أهدافها الخاصة في إنشاء "الدولة اليهودية"، لتتخذ من الدين قناعاً لخلق أيديولوجية تاريخية ودينية تجمع يهود الشتات حولها، وتُخفي بذلك حقيقة أهدافها عن العالم الخارجي، ويفسر بذلك رفضها لعدة اقتراحات لإقامة "الوطن القومي" غير فلسطين؛ فهل نتمكن من تقويض هذه الأسطورة وسرديتها التوراتية؟.

مع أنه من المستحيل منذ البداية تحقيق الحلم الصهيوني إلا بمساعدة كاملة من قوى السيادة العالمية، مما وفر مصلحة استعمارية متبادلة ومشتركة ربطت الحركة الصهيونية بالإمبريالية تنتقل مع انتقال مركز الثقل في زعامة الإمبريالية، وهي نفس المصلحة بالتكالب ضد ربيعنا الديمقراطي العربي وثورته.

الشعب فاعل والحكم مفعول به وليس العكس، قل لي ما هو هذا الحاكم أقل لك من هو هذا الشعب، فإذا كان الحاكم يخشى الشعب ويرتعد أمامه فهذا شعبٌ حقاً، أما إذا كان العكس فليس هذا بشعب وإنما قطيع. إن أعظم سياسة خارجية ممكنة لأي دولة هي البناء الداخلي، وما عدا ذلك بلا جدوى؛ ابنِ قوتك داخلياً أولاً ثم انطلـق، أو ستكون التبعية والاستبداد الخادم للاستعمار؛ وهذا حالُ منطقتنا العربية بعد 1970. راجع مقالنا "الجولان المسروق: تنقيبٌ في التاريخ"(1) الذي أشرنا في ثناياه لخططٍ تمت وسلطةٍ عميلة سلمت وفرطت ضمن التبعية للاستراتيجية المدارية الاستعمارية.

وإن كان "كريستيان بارينتي" يعالج ويطرح موضوع "مدار الفوضى" (عالم المعرفة العدد 411) من زاوية المناخ و الجغرافيا فإن الاستراتيجية المدارية الاستعمارية كان لها قدم السبق في تلك الفوضى.

لا أحد ينكر مزايا الغرب العظمى، التي تستحق الإشادة، لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا النواقص والعيوب، فالأصولية التي يعانيها الغرب حالياً لم تعد أصولية دينية، وإنما أصبحت أصولية إلحادية، مادية، إباحية، نسبوية، عدمية. وبالتالي فهي مضادة لأصوليتنا نحن ذات الطابع اللاهوتي القروسطي التكفيري القاطع المانع، فالخطر الغربي حالياً ليس من جهة الأصولية الدينية، وإنما من جهة الأصولية الإلحادية.

الأصولية السائدة في الغرب حالياً تكمن في هيمنة الفكر العَلْمَوي الوضعي التكنولوجي البارد الذي يُنكر حتى إنسانية الإنسان، بل ويختزل - الفكر الوضعي المتطرف في علمويَّته - الإنسان إلى مجرد عناصره الأولية، وقوانينه الفيزيائية وتفاعلاته البيولوجية – الفيزيولوجية، فهو لا يعترف بأي تعالٍ مثالي أو روحاني رباني يتجاوز الماديات، وهذا تيار خطر فعلاً، بل ولا يقل خطورة عن تيار الأصولية الدينية، وإنْ كان بشكّل مختلف أو معاكس، بدليل محاولته التدخل في التركيبة الوراثية للإنسان، من دون أي رادع أو وازع، بل ويحاول أن يخلق الجنين البشري في أنبوب الاختبار! بالإضافة إلى عمليات الاستنساخ المطبقة على النبات والحيوان، وربما الإنسان ذاته قريباً. ففي كل مرة كانت البشرية تشهد طفرة جديدة، وتنتقل من حال إلى حال، وكانت تولد من جديد، ونحن الآن على مشارف عالم آخر دخلناه مع انفجار طفرة المعلوماتية واكتشاف قارة الإنترنت والعالم الافتراضي مترافقة مع الطفرة البيولوجية والعولمة الاقتصادية؛ فنحن يومياً، ومنذ الصباح الباكر، نُبحر في خضم هذه القارة الجديدة للشبكة العنكبوتية، وبالتالي، فنحن نعيش ثلاث طفرات ومخاضات دفعة واحدة. وعن ذلك سوف ينبثق العالم الجديد.

هذا التطرف العلموي- التكنولوجي المفرغ من كل عاطفة إنسانية، أو قلب أو حتى أخلاق، أصبح يشكل خطراً على مستقبل البشرية، مثل التّطرف الديني، وربما أكثر، وهو الذي يشكل وحدة ثقافية مع الاستبداد وخيانة عصر الحرية والتنوير.

----------------------------

 

 

  1. العدد 78 من إشراق، (’’ الجولان المسروق: تنقيبٌ في التاريخ)

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

 

 

 
Whatsapp