رُب ضارةٍ نافعة؛ " كورونا" نموذجًا


 

 

 

 

كثر الوعاظ وهرطقة بعض أعداء الإنسان والفكر بحجة مواجهة الأيديولوجيا؛ وأيةُ أيديولوجيا؟ إنها الإيديولوجيا المغايرة لأيديولوجياتهم، فقط، كي يواكبوا الهجمة على الجماهير وروح الشعب ونبضه المتمثلة بالنهضة العربية إبان عصر المواجهة الكبرى مع الصهيونية وأعداء الأمة وأعداء الحرية والسلام العالمي. حينها كان أغلبهم من مدارس التبعية والزعبرة والهرطقة على حد تعبير المرحوم "الأستاذ الياس مرقص".

لقد تناسى أكثرهم ما جرى في 25 حزيران 2019، حين عقد اللقاء الأمني بالقدس (1) بين "جون بولتون" الأميركي، و"نيكولاي بتيرشوف" الروسي و"مائير بن شابات" الصهيوني.. وهو اللقاء الذي كان مواكباً لقمة خليجية حينها لوضع الخطط الأخيرة لتلزيم روسيا استكمال ما بدأت به من تنفيذ الخطة الأميركية الصهيونية المشتركة بعد 2015 ضد الثورة السورية ولوضع يدها إن استطاعت واستطاعوا على سورية ولبنان معاً إرضاءً لإسرائيل وحمايةً لحدودها المزعومة.

بعد ذلك بعدة أشهر جاء "كورونا" وبدأ انهيار كل ما حاولوا به، وهكذا يكون الرهان حين نشد على أيدي بعضنا كشعوب عربية مضطهدة ومستبعدة، وها نحن مثلهم في بيوتنا، مثلهم بحجرٍ فرضه الواقع الذي دفعونا له ودخلوا معنا به. والناس سيجدون طريقهم وسيعثرون على وسائل للاستمرار وتوسيع الأنشطة وتعميقها وترميم انكساراتها ولملمة جروحها، ليبنوا عالماً جديداً قابلاً للعيش فيه، شريطة أن نمتلك الإرادة والعزم والتصميم! ويكفي ألا نفقد الأمل.

كيف يمكن الحديث عن خلق حركة اجتماعية نشطة لتواجه ما نعيشه اليوم أو ما هو مقبل وقريب جداً من تهديدات وجودية لشعوبنا السائرة نحو الحرية؟ قد يبدو هذا الحديث غير واقعي، مع استدعاء البعض لـ "إدوارد دي بونو" وكُراته الافتراضية.. وقد يتصور البعض أن عصر الإنترنت كفيل بتسهيل الأمور، بل قد يرى أن العزلة الاجتماعية بدأت قبل "كورونا" بكثير وقد تسبب بها الاستخدام المفرط للهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات كلها، لا سيما بين أوساط الشباب، لكنها قد تكون هي المخرج والوسيلة إذا أُحسن استخدامها لتنظيم الصفوف والتضامن الاجتماعي لخلق حركة اجتماعية وسياسية واسعة النطاق، إن تمكن الناس من استخدام هذه التقنيات استخداماً جيداً في زمن العزل المنزلي والتباعد الاجتماعي، للانضمام والاستقطاب والتعاون والتنسيق والتشاور المتعمد، على الرغم من العوائق التي سيتسبب بها توقف الإنترنت أحياناً.

إنها لحظة تاريخية حاسمة للإنسان منا، ليس فقط بسبب فيروس "كورونا"  بل لأن الفيروس يُحضرنا للوعي بالعيوب العميقة التي تواجهها شعوبنا والبشرية، وأزمة "كورونا" لا تعدو جزء من كابوس رهيب مُقبل بعد التهديدات الراهنة بين دول كبرى وكلهم كانوا ومازالوا ضد حرية وتحرر بلدنا ونيل شعبنا لحقوقه التي ثار لأجلها؛ وإن لم يشرع الناس على الفور في تنظيم أنفسهم ويتضامنوا في ما بينهم لتحقيق عالم أفضل بكثير من الذي يعيشون فيه، فسيواجهون مصاعب هائلة لطالما أعاقت طريق الحق والعدالة، كما الاستعداد للتعامل مع الأخطار الوجودية لوحشية البشر ودول النهب الدولي "غربية وشرقية" كالحرب النووية والتغيرات المناخية والكوارث التي سيتسبب بها الاحتباس الحراري. ومن المتوقع أن يتصرف النظام الإمبريالي العالمي بهمجية مفرطة عبر الدول القوية العنيفة والاستبدادية.

لا توجد كلمات تصف ما يحدث لشعبنا في سورية ولباقي شعوبنا، حين نرى آلاف الأشخاص فارين من مناطق مدمرة، ويتم إرسالهم إلى الموت والجوع والفقر والحرمان، عقوداً وراء عقود. الأزمة إذاً أزمة حضارية وفيروس " كورونا" هو أحد أشد صدمات العصر اليوم، والغرب في هذه المرحلة مُدمر كما الشرق وباقي دول العالم.

لعلَّه من نافل القول أن الرعونة واللهاث وراء المنافع الشخصية أو الفئوية والاستعانة بالآخر الطامع والارتهان له هي التي توقع نخب الشعوب أحياناً، إن لم يكن غالباً، في المهالك وخصوصاً حين توضع في ظروف غير طبيعية، أو لا تكون، في الأصل، نخباً بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ تؤكد هذه الحقيقة ما آلت إليه أوضاع المعارضات العربية عموماً ومعارضتنا السورية خاصة ممن تنطع لتصدر المشهد، وكأنه لا وجود لها، رغم تكاثر الأحزاب والتنظيمات والمؤتمرات المنفردة التي تعقد بالخارج وكثرة الخطب عن الحرية والديمقراطية وصخب الشعارات التي تخص سورية المستقبل وأمتنا..! لكن اللافت أن ذلك النشاط لا يصاحبه تنسيق يقود في النهاية إلى غاية وطنية محددة، هي أهم ما تحتاجه قوى ثورية غايتها إسقاط نظام فاشي ومزمن في استبداده، ويؤسس هذا التنسيق لدولة المواطنة، وهو ما هبَّ الشعب السوري لأجله وما سعى إليه مؤكداً وحدة الشعب السوري كما باقي شعوب الربيع الديمقراطي العربي.

كيف يمكننا مواجهة لقاءات التفريط ومؤتمراتها التآمرية والمكشوفة؟ هل نستمر برؤية عدونا التاريخي يرسم مستقبل بلادنا للإبقاء على طُغم تقوم بأدوار تنهي وجودنا الحسي والواقعي؟ وكيف يمكن الخروج من أزمة "كورونا" أشد مضاءً وتصميماً على بلوغ أهداف ثورتنا وشعوبنا المكلومة؟

أمامنا خيارات عديدة تتراوح بين تركيب استبدادي وحشي للغاية في العالم تتحول فيه الدول إلى أكثر وحشية وتغول، أو خيار الراديكالية وإعادة إعمار المجتمعات، أو خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة الإمبريالية، التي سيسعدها التضخم الهائل لعنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس "كورونا"، لا سيما إن طالت الأزمة دون الإجابة عن سؤال وجودي تحت السحابة القاتمة لهذه الأزمة وهو: أي عالم نريد أن نعيش فيه؟

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

 

Whatsapp