حين نحبّ


حين نحبّ، يحدث أمر رهيب خارج مجال إدراكنا يجعلنا نعيد تشكيل موضوع الحبّ (نعني الشخص) وتسويته خلقاً جديداً.

ننفخ في طينته من عواصِفـنا الدّفينة، فيغدو مادّة مختلفة، هيأةً ومضموناً، ممكناً

 وتطلّعاً، لوناً ورائحة وطعماً. 

كأنّما ننظر في مرآة مسحورة، تقدّم لنا كذبة على درجة خبيثة من البهاء، كأنّما استعرْت َعيني أُمٍّ.. واستوطنت عشّ طير لم يعرف من الأوطان المعلّقة سوى تلك الكومة المقوّرة من القشّ الظمآن، يُليّنها ريشُه وهو يتوهّم أنّ الرّواء يأتي من ملمسها، كأنّما تجمّعت على الفؤاد منك وعلى السّمع والبصر حواجزٌ عملاقة ٌمن الإنتظارات تريك ما لا وجود له، حتّى فيك أنت ذاتك.

وحين نحبّ، تنام عيوننا القديمة، وتستيقظ مُقل أخرى كانت هاجعة في موضع باهت منّا، كأنّها كانت موجودة على سبيل الاحتياط، وقد تظلّ هامدة كآلة معطّلة عند بعض "من خفّت موازينهم" ولم يجرّوا على أنفسهم "عداوة النّعاس"، فالنّوم رديف الاستقامة والاستقامة اعتدال في الأمزجة، وذوو الاعتدال لا "يفقؤون" بصائرهم ولا يظلمون مرايا الحقيقة. 

حين يعترينا هذا الحدث، تختفي زاوية النّظر الواثقة الأمينة ونحتال على الكون 

ونصوّر "الوافد" بتقنية الخدعة، نبالغ في استعمال الألوان ونمعن في إخفاء ملامح "الأصل"، وندخل في دوار مثل غيبوبة مخدّرة لـ "صلف" الواقع ولعنجهيّة الحياة العاقلة.

تصبح مهمّتنا الأثيرة هي "التّجميل"، فأن "نحبّ" هو أن نبتكر ضرباً من "فنّ" التّحويل و"تغيير الوجهة" هو أن "نُـشرِك"، إذ ننتحل مهمّة الإله في "إعادة الخلق" وهو يغفر لنا، لأنّها "حيلة" عابرة لا يرى ابتكاراتها سوانا، مَعارِضٌ وقتيّة زائلة تمكّننا من الاختلاء بأنفسنا دون فجيعة، وتنقذنا من أنفسنا قبل أن ندرك.

بعضُنا كتب عليه الموت مرّات عديدة، وتلك طرائق الصّمود التي يمدّه بها الإله حتّى يؤجّل موْتته أو يتفنّن في الإقامة فيها.

وحين تذبل أوراق الرّسوم ويزول طلاء اللّوحة، حين يعنّ للأعين المستعارة أن تخلد إلى اللامبالاة، حين تكون النّسخ الأصليّة أشدّ صلابة من حضن الخيال، وحين تضيق ساحات المعارض بتفشّي الجنون ويكون نصيبك من الرّياح كثيفاً 

ويقوى تيّار الرّغبة في الانفصال عن النّسخة الأرضيّة للشّغف، حينها تعود آليّات المعقول إلى الاشتغال، وكأنّ فِـلْـماً انتهى فجأة.

كان هذا النّص في دفتري عندما التقيت بـ"لوكريس" الشّاعر اليوناني الذي جُنّ إثر جرعة غير موزونة من حبّ، ويبدو أنه "سرق" منّي الفكرة، في القرن الأوّل قبل الميلاد، وهو أمر معقول لأنّ الجنون عبور بين تجاويف الزّمن، ولأنّ "إيروس"، ليس إلاهاً ولا بشراً بل هو جنّيّ يضطلع بمهمّة الوساطة بين الآلهة

 وأهل الطّين، ولقد عّبر "لوكريس" عن فكرتي بكون معضلة الحبّ هي أنّ الحبيب غير موجود، فالحبّ عرض لسمات تخييلية تسببها الذّرّات التي تنطلق من المخلوق الجذّاب، لترتطم بالعين المقابلة لعينيًّ العاشق فتصيبه بالعمى، فيحكي المحبوب لنفسه حكاية ويصنع إلاهه مليئاً بألف إغراء.

ولكنّني افترقت عن (لوكريس) المهووس بهمّ العشق، الذي يطلق عليه الهمّ الثّلجي، عندما بدأ يقترح طرائق العلاج بقوله: 

  • داوِ الجراحَ القديمة بندوب جديدة.

 وبما أنّني أكره الجراح والنّدوب، جعلت أفكّر في مدى انسجام علاجاته للحبّ مع منطلق الفكرة، الجراح تصنعها أيدينا لأنّ الأمر كما قلنا "بيننا وبيننا"، أن نبحث عن قصص أخرى نرويها لأنفسنا ونعدّد آلهتنا ونوزّع "همومنا الثّلجيّة" على منحدرات جديدة، أمر متروك للنّقاش المهمّ أن توافق حكاياتنا،"استتيقا الحياة" لأنّ "أفروديت" هي توأم إيروس، وأن تمكّننا الحكايا المتجدّدة من التّحليق بعيداً عن خنادق الموت لأنّ الحبّ عند مبتدأ انقسام الأنفس هو الآليّة الأبهى للخلود، وإن تكن استعارة مدوّية.

 

 

أماني بليبل

كاتبة سورية

Whatsapp