سحر الذاكرة


حين نشتاق يعجز عقلنا عن التفكير!، وخاصة إذا كان الاشتياق ضريراً، هل كتب علينا مفارقة الوطن والأحبة، مفارقة رائحة في صدورنا لا تبارحنا، طعم ماء يضاهي السلسبيل، أما الرياح فسكاكين من الشوق تلازمنا، صور صامتة تتلاحق في عقولنا ولا نملك أي سيطرة عليها، شوق لا يبرد، ألم مستمر منازل فارغة، ثياب معلقة، دموع محجرة والذكريات مكدسة، لاح شبح الرحيل ودقت أجراس الوداع، لبسنا السواد وأعلنا الحداد، وحدها الذكريات من رافقنا، تحمل صوراً للوحات خالدة في أعماقنا، وباتت حياتنا محطات، كلها متشابهة في غياب الوطن. 

إلا الناس فلا تتشابه، التقينا بأناس رائعون حفروا سهاماً في قلوبنا، والسهم إما يخترق ويجرح وإما يستقر ويبعث الأمن والحنان، والآخرين كانوا الأكثر، أماكن كثر جلناها في كل محطة كان لنا أحبة لا يمكن نسيانهم فذاكرتنا وفية لا تفقد الأحبة، في المحطة الأولى كان الأهل من حولنا حملونا برموش أعينهم، والثانية وجدنا أصدقاء كانوا لنا أكثر من أهل، وعندما عزمنا الرحيل إلى محطتنا الثالثة ترجونا البقاء، وهو ليس مجرد كلام، قالوا لنا بالحرف وبلهجتهم الحلوة (دنتو أهلينا واللقمة نقسمها بيناتنا)، وعقد الإيجار يوقع لسنوات، فارقناهم مرغمين، إلى المحطة الثالثة ولم نندم فكل من حولنا حاول إدخال البهجة لقلوبنا، وكانوا يرددون أنتم من ضمن عائلتنا،  احتوونا بكل رحابة صدر، لكن قدر الانتقال إلى المحطة الرابعة لازمنا وها نحن الآن في تلك المحطة لا ندري إن كانت الأخيرة إلى حين العودة إلى الوطن إن كتب لنا أم سيبقى الاشتياق ضريراً! 

وسيبقى اليتم ملازماً لنا في غيابه ولو عانقنا العالم كله لا يعوض لحظة في ربوعه بكل أشكاله، ونبقى مع ذكرياتنا التي لا نختارها هي من تفرض نفسها علينا، شبكة معقدة مليئة بالثقوب، حتى آلام الذكريات جميلة، القهوة وحدها من تشحن تلك الذكريات مع كل رشفة ترياق جديد لقلوب مكلومة، مذاق ساحر يقربنا من الوطن، وثورة التكنولوجيا تعيد لنا بعض من صور الواقع وبعض الأصوات، تساعدنا على الصبر والسلوان،  ومنها أيضاً نتعرف على عادات وتقاليد الشعوب، وأصبحت نافذتنا الوحيدة التي نطل من خلالها على أحبتنا ولا ندري إن كنا سنراهم أم سينضمون إلى قائمة الذكريات، أيتها المسافات رفقاً بنا فشريحة ذاكراتنا بدأت بإرسال كل الأضواء معبرة عن سخطها وأنها وصلت إلى مرحلة الهذيان، هاجس وحيد يتملكنا هل ستمتلئ تلك الذاكرة الى درجة الانفجار!؟، لا ذاكرة في هذا العالم تتشابه مع ذاكرتنا فهي مصنوعة من فولاذ لتستطيع أن تحتوي كل ما مررنا به خلال كل هذه السنوات. 

نحاول أن نبقي ذكرياتنا الجميلة لكنها ترتطم دوماً بالذكريات المؤلمة وكأنها الأقوى وهي المسيطرة، فالبحر الهائج يفقدنا السيطرة على أعماقنا ويشل ذكرياتنا الجميلة.

ذكرياتنا نصوص تسرد نحن أبطالها، وإن كتبت كانت مخطوطات تحتضن عمق مشاعرنا وترتعش لها قلوبنا، ذكرياتنا لن تموت فهي تضج بأرواحنا، وستنتقل عبر الأجيال على مر الزمن، فكل ما يكتب هو ذكريات خالدة، سفينة أحلام عبر الزمن.

 

إلهام حقي

رئيسة قسم المرأة

 

Whatsapp