مجزرة الكيماوي وجائحة كورونا




اتخذت بعض السلطات من أزمة كورونا وسيلة كي تتخلص من بعض الملفات المقلقة، حيث جاءت الجائحة هدية لها لتجاوز أزماتها التي نتجت عن سوئها، وهذا لا يقتصر على الدول النامية، إنما يطال أعرق الديمقراطيات، خاصة أميركا التي تتعرض لاختبار حقيقي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وهكذا نقترب من معنى التربية وثقافة الحرية لدى الشعوب، والممارسات المقيدة من منطلق الإيمان بأن الحرية حق لا يمكن لأي سلطة أن تصادره، وهنا نرى أن معظم الشعوب العربية لا تبدو مثقفة تثقيفاً حقيقياً على مستوى وعي الحرية وقيمها، أو بوصفها منهج حياة، مع التشديد على تضمين قيم الحرية، ونهجها في التعليم القائم على مبدأ التفكير الحر، ففلسفة التعليم في جميع البلدان العربية تحرص على أن تتجاوز بناء نهج الحرية، مع تمكين التّصورات التي تبقي الإنسان بمعزل عن أي محاولة لإدراك الذات، وفردية الوجود وحريته.
في سورية حلّت الذكرى السابعة لمجزرة الكيماوي الأسدية في غوطتي دمشق ’’الشرقية والغربية‘‘، فيما أصبح تفشّي وباء كورونا مروّعاً، تحديداً في ’’مناطق يسطو عليها النظام‘‘، فوحّدت المُصيبة الموالين والمعارضين في عدم فهم موقف النظام الذي يواصل الإنكار ويُصدر بيانات عن الإصابات والوفيات لا علاقة لها بالواقع إطلاقاً، ففي خارج الوطن نسمع من على الهاتف تكراراً لعبارات: إنهم- ويقصدون النظام وجلاوزته- يريدوننا أن نموت، إنهم يسرقون المساعدات الطبية التي تصلهم مجاناً ويتربّحون من بيعها إلينا، لا وقاية ولا فحوص ولا اختبارات ولا علاجات جادة، وأهل المصاب مضطرون لرشوة عناصر السلطة في كل المراحل: من التشخيص الى تأمين سرير في مستشفى، إلى الحصول على أسطوانة أوكسجين. وإلى الإذن بنقل الجثمان عند الوفاة، إلى الترخيص بالدفن (مع إقرار إجباري في الوثائق بأن سبب الوفاة ليس فايروس كورونا)، أحد الذين قصدوا المكتب المختص للحصول على ترخيص لدفن قريبه انتظر ساعات طويلة لأن رقم دوره يفوق الـ 350 والوفيات الطبيعية لا تتجاوز 15 في المئة، وما ينشر في الإعلام يبقى أقلّ من الحقيقة، وإن أكثر من 63 طبيباً وطبيبة قضوا حتى الآن بسبب قلة وسائل الوقاية وعدم تأهيل المستشفيات لمواجهة الجائحة، وحين الاتصال من الخارج بالأطباء في دمشق وحلب مثلاً، يخشى هؤلاء الكلام، ومع ذلك يُنقل عنهم وصف مُفجع لما أصبحت عليه الحال.
قبل شهرين كانت الإصابات محدودة، والآن أصبحت بالمئات يومياً، وأحياناً بالآلاف، مع ازدياد متسارع، الاقتناع السائد أن تزايد أعداد الإيرانيين الطائفيين القتلة سبب رئيسي لهذا التفشّي غير المألوف، ووصول بعض السوريين من الخارج لزيارة عائلاتهم؛ العدد الواقعي للحالات تجاوز- بتحفّظ- المئة ألف.. وكل تقرير يعده برنامج الأمم المتحدة للتنمية عن تفشّي الوباء في سورية ترفض حكومة النظام نشره؛ ومنظمة الصحة العالمية لا تشير إلى خطورة الوضع بحجة أنها لا تملك معطيات رسمية كافية، لكنها تعلم الكثير عن عجز المنظومة الصحّية في سورية وانهيارها، وعن تردّي أماكن الحجر الصحّي إذا توفّرت، بل إن دولاً أوروبية أبدت استعدادها لإرسال مساعدات لكن سلطات نظام الأمر الواقع ليست متعاونة؛ وأوساط عدّة خلصت إلى أن الفايروس أراح النظام من الضغوط الداخلية في مناطقه، فالهمّ الصحّي غطّى حالياً على الصعوبات المعيشية رغم أنها ازدادت حدّةً، ومازال النظام يتخفى وراء إلزامية ارتداء الكمامات الواقية بالفضاءات والأماكن العامة المفتوحة والمغلقة غير المؤهلة أصلاً لأي وقاية، ولعل استمرار إعراض النظام عن الإصغاء للعلماء والمفكرين، أو الأخذ بآراء المختصين الفاعلين والحقيقيين، يُعدّ من مظاهر فشله المديدة والدائمة على مواجهة الأزمات، ما يعني تشوّهًا ثقافياً وحضارياً وعقلياً لتلك السلطة القاتلة.
إن المخاطر التي تهدد البشرية، نتيجة إغلاق المدارس أو المؤسسات التعليمية، يشير إلى أننا نتجه نحو عالم بلا معرفة حقيقية ذات طابع حر، ومتفرّد، فالتعليم ينهض على التراكم، فضلاً عن أن التعليم سياق اجتماعي، وليس معرفي وحسب، وفي ظل توقف المؤسسات التعليمية، وعودة التعليم، أم الاستمرار بالإغلاق، فإن هذا يبدو محتملاً للعديد من الآثار السلبية، فالتعليم لا يقل أهمية عن العوامل الاقتصادية، وأي وسيلة للحدّ من ممارسات التعليم، فإنه سوف يعني تراجعاً قيمياً، كما أنه يقوّض قيمة الحرية تحديداً، وهذا ما يعني أن البشرية قد بدأت تفقد مكتسباتها لصالح القوى الظلامية التي تسعى لتعزيز السيطرة على القيم المعرفية لتتحول إلى سلعة استهلاكية مصدرها التقنيات التي بدأت تمسخ الإنسان الذي توارى خلف وجودٍ لا يعبر عن روحه الحقيقية.
إن موضوع الحريات، بظل الأزمات التي بدأت تُستغل لتصبح أداة من أدوات تقييد وتنميط حياة الإنسان، حيث نلاحظ في سياق هذه الظاهرة أن الشعوب التي تمتلك الوعي بالحرية، تبدو الأكثر مقاومة لإجراءات السلطات المبالغ فيها، لتقييد أنماط الارتحال والسفر، وكافة الممارسات اليومية من منطلق أنّ حرية الفرد مقدسة، وهنا نعود إلى أن العلاقة مع السلطة غالباً ما تبقى متوترة، نتيجة فقدان الثقة التاريخي من قبل الشعوب بالنموذج المتحكم في مجرى الأمور، ما يعلل التشكيك الدائم بالقرارات المتخذة.
لا يمكن أن نقلل في أي حال من الأحوال من مخاطر أي أزمة، غير أن مقارنة بما يمكن أن يحدثه هذا الوجود الطّارئ على تهديم أو نقض نضال مجتمعات وحلقات متعددة من معاني التطور البشري، وسعيها للحرية، حيث يخسر الإنسان نضاله، وما أنجزه في غفلة من الزمن، وقد حذّر العلماء من كارثة بيئية قد يواجهها العالم، أشد خطورة من كورونا في السنوات العشر المقبلة، تتمثل بظاهرة الاحتباس الحراري، فمنظومة المعرفة ينبغي أن تتقدم على ما عداها، كما أنها لا يمكن أن تتطور إلا في سياق الحرية.
إذا كان استمرار الأزمة قد بات أمراً واقعاً، فإن هذا لا يعني في أي حال من الأحوال أن تصادر مكتسبات الإنسان في التعلم، والتنقل، والحياة، فوصاية السلطة لم تأت إلا من تغذية الهواجس والأساطير التي تتيح حكم البشر عند دفعهم للإيمان بمعتقدات أو أيديولوجيات ما، بحيث تتحول هذه إلى أدوات لإلغاء العقل، وقد عبر عن ذلك مؤلف كتاب «العاقل؛ تاريخ موجز للجنس البشري» حين حلل آلية تطور السلطة عبر التاريخ، لاسيما مع بدء الثورة الزراعية، وتحول الإنسان من مجتمعات الصيد إلى مجتمعات مستقرة، فظهرت المدنية التي أتاحت للسلطات تطوير آلياتها للمحافظة على بعض مكتسبات النخب.
ولعل هذا ما يقلق الشعوب التي تعي قيمة الحرية كونها أدركت أنها لا يمكن أن تعود خطوة للوراء، ولهذا نجدها الأكثر شراسة للتعبير عن تحفظها تجاه بعض الإجراءات؛ في حين أن معظم قطاعات العالم العربي ما زالت في طور نضالها للتخلص من الفساد، والترهل الإداري، وسلسلة مشاكل تبدو بدائية أو تجاوزها الزمن، وإن بعضها- ومنها نظام الإجرام الأسدي- غير قادرة على توفير الخبز لشعوبها، نظراً لمجموع الفساد الذي بات ظاهرة تفوق أي مشكلة بيئية أو صحية.

 

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري


 

Whatsapp