جسر الرقّة العتيق والفيضان


 

ارتفعت مياه النهر حتّى لامست جسم الجسر، كان هذا حديث الناس، وكان لابدّ - والحالة هذه - من النزهة التفقديّة المعتادة، للاطلاع على جبروت الفرات وصلفه وغضبه الربيعيّ، لابدّ من المشوار عصراً على الجسر الذي تطاولت عليه المياه حتى غمرت ظهره كاملا!!!!

---------

أن نبصر النهر منتفخاّ حتى التخمة فهذا أمر ممتع، ولعل الأشهى والأمتع أن ندلّي أقدامنا أو أكفّنا من خلال فتحات سور رصيف الجسر، لنعبث بالماء، فنأخذ بصمة الفرات السنويّة ونرشها على أجسادنا الغضة، ونحتفظ بها ذكرى عزيزة حتى العام القادم، أو الفيضان القادم.

----------

كانت المياه عكرة، موحلة، وثمة هدير داخليّ خفيّ يذكرنا بأفلام الرعب في سينما فؤاد، وكان النهر أشبه بكائن خرافيّ ضاق بجغرافيّة جسده، فراح يمزّق جلده ويخترق حدود حجمه، ويهدّد بالويل ما حوله، ومن حوله.

-----------

حل الظلام وما زلنا نمشي على الماء المتسلل إلى ظهر الجسر ولا يود أحد أن يفكر مجرد تفكير بالمغادرة.

البعض منا كان حافياً بعد أن سرق النهر صندله، والبعض الآخر يرفع ثوبه حتى يبدو طرف سرواله الداخلي فوق الركبة، وكان سباق الجري فوق الماء من أمتع الألعاب لدينا وعندما حان موعده، اصطففنا نحن الأطفال عند بداية الجسر الشمالية ننتظر الإشارة للانطلاق والركض إلى الجهة الجنوبية منه.

بدأ السباق سريعاً على ظهر الجسر المغمور بالمياه، ولكن سرعان ما بدأ بعض الأطفال بالانسحاب ما بين متعثر ومتعب ومدّع البحث عن حذاء مفقود حينا ولطرطشة الماء حتى العينين حينا آخر.

وهكذا وبين توقف واستمرار وصل اثنان فقط إلى نهاية السباق فائزين بالتصفيق وصيحات الإعجاب وهلهولة صاخبة من النسوة الحاضرات المتابعات لنا.

لم أكن أحد الفائزين مع الأسف لأني توقفت بمنتصف الجسر لألتقط أنفاسي وبحجة البحث عن فردة حذائي الضائعة أصلا.

---------

كان فرحنا مستمراً بهذا المهرجان النهري البديع عندما أعلن الكبار انتهاء الزيارة فقمنا بلملمة حاجاتنا ضاحكاً بعضنا من بعض، وعدنا أدراجنا صوب المدينة، وكنت بفردة الحذاء الوحيدة أسير قرب أهلي متثاقلا وقد بلغ بي الجوع والتعب مبلغاً كبيراً، وأنا أصغي لذلك الحديث الذي يدور حولي عن تلك الصور الجميلة التي انطبعت في نفوسنا وذاكرتنا لهذا السيّد المحترم، لهذا الفرات الهائج في موسم الفيضان.!

-----------

كان الجسر العتيق جسراً وحيداً لمدينة فريدة في هدوئها وبساطتها، وحضنها الرحيب الذي يضم الجميع بلا عقد المدنيّة المعتادة.

وكانت الرقة مدينة كالعصافير، تنام مساء وتصحو فجراً، وتردّد كالفراشة أجمل أغنيات الحب، وتستنشق عبير زهر العنقود والزيزفون.

مدينة صغيرة كالبلابل لا تعرف إلا ماء الفرات عطراً ونشيداً وحياة.

كانت بستانَاً للبساطة، وحقلاً للبراءة، وحديقةً للهمس الجميل.

------------

فلماذا تكالبت عليها كلّ أحقاد الأرض؟!

لماذا قصفوا وجهها البريء، الذي تخدشه نسمة، بصواريخ متعددة الجنسيّة والأحقاد؟!

فسحقاً لهذه الكرة الأرضية، وسحقاً لخطوط الطول المعوجّة فيها، وخطوط العرضّ...!، سحقاً وسحقاً لكرةٍ لا خطّ مستقيماً فيها ولا وجدان ...!



 

عصام حقي‏

شاعر وكاتب سوري

 

Whatsapp