بيع الفلافل


 

 

يذكر كارل ماركس: (إنّ تأريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام).

قبل مدّة تعرّفت على جارٍ لي من سرغايا، لديه كشك لبيع الفلافل وفطائر الجبنة واللحم بعجين، هو ابن صنعة معتّق، بحكم مروري أحياناً وابنتي وبعض أضيافي القلّة الذين يمنحوني شرف زيارتهم، لنحاول استرجاعِ ذاكرة طعامنا المشرقي والذي ابتعد كأضعف الذكريات بحكم سطوة ذاكرة النهب، واحتلالات الأرض المحروقة والخاوية من أهلها.

وخلال تبادل السلام، وتداول أحاديث ودودةٍ استأذنته لأعمل معه كمساعدٍ أياماً قليلة بلا مقابل لأتعلّم أسرار إعداد الفلافل والفطائر، وأشحن مهاراتي في رحلة البحث عن عمل كريم.

اليوم ذهبت لمساعدته بالعمل كصانع متواضع لا يزعم أنه يعرف شيئاً في هذا المجال، ويطمح لاكتساب معرفةٍ وتطوير وترميم مخزون معارفه بما يتناسب ورحلة إعادة تدوير ماكينة الروح والعقل والجسد، عملا بمقولة: 

  • " اثنان لا يتعلمان: مُستحٍ، ومتكبّر.. "

بعد التحية والدخول *للتراك فود - واخد بال حضرتك، متل اللبنانية وغلمان مراكز الدراسات والبحوث النفطيّة: خلط افرنجي بعربي، بادرته بسؤالٍ أوّلي لأتكهّنَ بمستوى صبرهِ وفيما إذا كان سيحتمل شغفي وفضولي وأسئلة الطفولة العفوية:

  • أبو عبدو هل لديك أطفال؟ ....

صفن برهة وتمهّل متحسّراً وهو يُخرِجُ قرص لحم بعجين من صحن الفرن، ليدفع فيه بفطيرة جبنة عكاوي.

ثم تنهّد وقال:

  •  كان عندي وحيدي واستشهد في أول الثورة، وقضت أمه بعدهِ قهراً، فحملت ثأري وهجرت البلد كي أربّيهِ كل شبر بنذر، وكي لا يُقتل كلانا في مهدهِ، تركت مطعمي الخاص ومزارع التفاح والمشمش والكرز والأجاص والخوخ واللوز بعهدة من بقي من أهلي بسرغايا، وجئت وحيداً منذ سنينٍ خمسٍ مرّت أعالج قهري ووحشة قلبي المرمّد.

ليت الأرض انشقّت وابتلعتني، أو ليته دفعني في الفرن كقبضةٍ من عجين الأسئلة التي لم تختمر بعد، لتُخبز فطيراً مرقّشا بدوائرٍ مفقوءة تحت وهجِ التسرّع. 

طأطأت حياءً وألماً وأسفاً، وانكفأت على نفسي أدمدم باعتذارٍ بليد.

بدأت يومي الأول في العمل تحت إشراف أبو عبدو بتعليمات بسيطة ودودة، محترماً عمري رغم أننا متقاربين بالسنِّ وربما تجاوزته سنيناً قليلة وسبقته بكثير من الخيبات، ومقترباً منه في سباق تتابع الألم والحزن لأتناول منه الراية لاهثاً في قفار المنافي، لعلّ من يتناولها متابعاً رحلة البحث عن ثاراتنا التي توزّعت بين قبائل الهمجية التي تسعى بالسراج والفتيلة لتدجين واستنعاجِ، أو إفناء ما تيسّر من البشرية السادرة في غيي الغفلة والسذاجة، واللاهثة وراء الرغيف وحاجاتها الأساسيّة.

استرسل أبو عبدو في شرح خلطة الفلافل الشاميّة وتفاصيلها ومعاييرها وطريقة تحضيرها، وصولا لعملية القلي.

سألته: هل تضيف الفول المنقوع "المتشتش" لخلطة الفلافل؟

فأجاب أبو عبدو: لا تلك الخلطة اللبنانية إذ يضيفون نسبة من الفول للخلطة فتتفوق بطعمها وفوائدها أكثر، ولكن تظهر ملامح قرص الفلافل بعد القلي بسمرةٍ زائدة، ونحن في بلادنا لا نضيف الفول، فشُقرة القرص مثيرة للشهية، وهو يدرجُ (لفّة فلافل) لامرأة سوريّة تدخن سيجارتها منتظرة أمام الكشك. 

عرّج على تفاصيل الخضار والمخلل المضافة وطريقة تحضير (الطراطور) ناول المرأة لفافتها التي تقصدت أن تتحدث وتحاسب بالألمانية، ربما تحاشياً لأسباب شتى تعنيها ولا تثير اهتمامنا.

بعد ذاك استفسرت عن نوعية الجبنة التي يثردها على قرص العجين، فشرح لي مصادرها ونوعيتها، ثم تبادر لذهني أن أسأله عن طريقة تحضير الجبنة البلدية وتخزينها للمونة في وادي بردى وريف دمشق، لأكتشف طريقة مختلفة عمّا اعتدنا عليه في الجزيرة السورية، إذّ أنهم بعد تجبين الحليب وتقطيع الجبن لشرائح، وتمليحها بملح صخري خشن، وترتيبها في خوابي أو أوعية زجاجية، وتصفيتها مما ينزُّ منها بسبب الملح، ثم غمرها بماء مالح وتركها ليلة تحت نور القمر، ثمّ تخزينها هكذا دون غلي أو تسنير كما يفعل الآخرون، وأخبرني أنه هكذا يبقى ربما لسنتين دون أن يفسد، وحتى حين يستخرجونه للاستهلاك لا يتمّ غليه بالماء !؟، ثمًّ نصحني بكلمات خجولة متواضعةٍ:

  • لكي تعمل في شأن الإطعام يجب أن تحلق لحيتك وتخفف شاربيك الكثّين أو تحلقها نهائياً، فالناس عموماً تتوجّس لأجل نظافة طعامها.

تركته بعد ساعات ودودة ولطيفة من أحاديث شتّى تبادلناها، ورجعت للبيت في وقت عودة عشتار من المدرسة لتجهيز طعام الغداء لها.

*

غفوت قليلا، وفي القيلولة الخاطفة اعتراني حلمٌ أيقظني دامع العينين، إذ هاجت رائحة خبز التنوّر في الحلم، كأنه توارد تحت تأثير فطائر أبو عبدو ومحاولتي الجديدة لتعلّم شيءٍ مفيد، استيقظت وركضت صوب المبطخ، لأجد دخاناً أسود يتصاعد من الفرن ورائحة الخبز ملأت أرجاء البيت.

يبدو أن عشتار وضعت شريحة خبزة مُطعّمة بالخضار والثوم في الفرن ويبدو أنها أغفت تعباً وغَفِلت عنها، تركتها راقدة وابتسمت مستهزئاً بنفسي وبذاكرة التنوّر البعيدة، وانشغلت بتنظيف الفرن من الخبز المتفحّم وتهوية البيت.

*

أفكر الآن بتأسيسِ مركزَ أبحاثٍ ودراسات استراتيجيّة لتطوير الفلافل والشوربة والفطائر وزراعة اليقين، وخطر لي أن أستنجد بفلول الدكاترة المسرّحين من مواخير وأوكار النفط الاستراتيجية لأسباب تتعلق بالنزاهة والشرف فسخرتُ من سذاجتي، لأن فهم ماركس فتح لي أفقاً بأن الالتقاط والصيد في بداية رحلة البحث عن الطعام كان سبباً رئيساً وحافزاً لممارسة البغاء كأول مهنة في التاريخ، وليس من المعقول أن الدكاترة الذين اعتادوا على بذخ مواخير النفط وحاولوا بناء متراس لمجد شخصي أن يتواضعوا ويرتدّوا بإخلاص للعمل في مركز دراسات عن الفلافل والفطائر والبرغل وخبز الشعير والعصيدة.

يا شباب الأجدى هو التركيز على بسطة فلافل أو تنور لخبز فطائر طازجة أو قدر عرانيس ذرة مسلوقة، أو سحلب شتائي مع كعك بجوار مدرسة، ربما أكثر جدوى من محاولاتنا البائسة لإثبات وجودنا المهترئ عبر اجترار وهم التميّز، أو المكابرة الفاضحة التي تبطح وجودنا وتمرّغه، لنستجدي قوت الكفاف على قارعة السؤال.

أما إن كنت بائع فلافل وجبناً مخبوزا فتستطيع أن تطعم عابر سبيل مباغتاً جائعاً، أو تشتري أقلاماً ودفاتر، ريشاً وألوانا لطفلٍ مبدعٍ شريدٍ يتيم، أو تعين أمّا مكافحة ضاقت بها السبل وحاق بها جور ذوي القربى، فلا تضطر أن تنتحر عجزاً وقهراً واندحاراً، بقرص فلافل تشتري رصاصة وتطعم محارباً لطرد محتلٍّ لدود. 

 

 

محمد صالح عويد

شاعر وكاتب سوري

Whatsapp