يوم الجلاء واستقلالنا الناجـز


 

     يصادف 17 نيسان/ابريل، الذكرى 75 لجلاء الاحتلال الفرنسي عن سورية، الذي كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة للكيان السوري المفترض في وعي النخب السياسية والثقافية السورية حينها، فلم يطلقوا عليه اسم عيد الاستقلال، بل اكتفوا بعيد الجلاء بسبب إيمان تلكم النخب بأنه كيانًا منقوصًا لا بد من استكماله.

جذور هذا الوعي تعود لأواسط القرن 19، حين ظهر الكيان السوري على يد السلطان العثماني عبد العزيز، بإطلاق اسم سورية على ولاية «شام شريف» وفق قانون الولايات الصادر عام 1864، والتي كانت تمتد من جنوبي معرة النعمان شمالاً لرفح والعقبة جنوباً دون حلب، لكن النخب الثقافية في ولاية سورية العثمانية كانت تنظر إلى حلب كجزء من الكيانية السورية الأعم، وهوية هذا الكيان كانت العربية، إذ لم تطرح هوية ثقافية أخرى له. 

     في 1919 تأسست المملكة السورية بضم جميع مناطق بلاد الشام، من حلب إلى العقبة، والتي اعتبر ساحلها مع المتوسط محتل من بريطانيا في فلسطين ومن فرنسا لجبل لبنان وجبال طرطوس واللاذقية، كأحد تجليات اتفاقية «سايكس بيكو»، وكلها من المملكة السورية؛ وخلال الانتدابين الفرنسي والإنجليزي بقيت النخب الثقافية والحركات والأحزاب السياسية في بلاد الشام تتبنى الكيانية السياسية السورية بهويتها الثقافية العربية، وخلال مفاوضات الجلاء عن فرنسا، تم تحاشي استخدام مفهوم الاستقلال؛ فكيف سيكون استقلالًا إن كان أكثر من نصف مساحة سورية، حينها، محتلاً من عدة دول؟!

     ومنذ هزيمة قوات المملكة السورية في معركة ميسلون بقيادة يوسف العظمة بدأ الاحتلال الفرنسي وذلك منذ 24 تموز/يوليو 1920 واستمر حتى 17 نيسان/ابريل 1946 عندما خاطب شكري القوتلي جموع السوريين مهنئاً: «بنو وطني، هذا يومٌ تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم».

     والوصول إلى ذلك اليوم لم يكن سهلاً، إذ كافح السوريون بالسلاح والسياسة حتى بلغوه، فلم يهدأ الكفاح المسلح في سورية مترافقاً مع النضال السياسي، منذ دخول الاحتلال الفرنسي إلى دمشق، بعد معركة ميسلون، وصولاً لقمع الثورة السورية الكبرى عام 1927، باستخدام الطائرات الحربية والمدرعات وآلاف الجنود، مما أدى لانتشار الثورة من جديد في عموم الأراضي السورية متبعةً نمط حرب العصابات في أغلبها، مستفيدة من الطبيعة السورية بعمليات الكر والفر والاحتماء، وكان من أبرز قيادات هذه الثورات: من جبل العرب سلطان باشا الأطرش الذي كان قائداً للثورة السورية الكبرى، وصالح العلي على طول الساحل السوري، وإبراهيم هنانو في إدلب وحلب، إضافة لقيادات في دمشق وغوطتيها وحمص وحماة وتلكلخ ودير الزور والقنيطرة؛ وفي 1928 كانت الانطلاقة الحقيقية للعمل السياسي، فتشكلت الجمعية التأسيسية برئاسة هاشم الأتاسي واقترحت الدستور، وتشكلت لجنة لصياغته برئاسة إبراهيم هنانو، وصدر الدستور عام 1930، وتضمن 116 مادة، بموافقة المندوب السامي، واعتُبرت سورية فيه دولةً واحدة لا تتجزأ، ونظامُها جمهوري برلماني، وعلم الدولة هو العلم الحالي للثورة السورية.

     لكن الانتداب الفرنسي عاد مراوغاً كعادته، برفض الدستور الجديد وتعطيل الجمعية التأسيسية، فانتشرت المظاهرات في أرجاء البلاد، وعمت الإضرابات مختلف المناطق، دفع الإضراب العام فرنسا للقبول أخيراً، في آذار/مارس 1936، بالمفاوضات والتوصل لإبرام معاهدة تضع حداً للانتداب، وتم تشكيل الوفد السوري برئاسة هاشم الأتاسي، وبالمفاوضات تم التوقيع على معاهدة صداقة مع فرنسا، اعترفت فيها الأخيرة بسورية موحدة، مقابل التحالف معها لمدة 25 عاماً، والإبقاء على قواعد فرنسية لمدة خمسة أعوام، لكن البرلمان الفرنسي رفض المعاهدة لاحقاً، وعلق المفوض الفرنسي العمل بالدستور السوري وحل البرلمان، مما أدى لاندلاع احتجاجات داخل الأراضي السورية، تزامناً مع بدء الحرب العالمية الثانية، واستمرت خلال الأعوام اللاحقة حتى الجلاء.

     وبعد فوز الكتلة الوطنية السورية بالانتخابات النيابية عام 1942، انتُخب بعدها بعام، شكري القوتلي رئيساً للجمهورية، واعتُرف رسمياً باستقلال سورية، وكلف القوتلي، سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة الجديدة، وفور تشكيل هذه الحكومة دخلت البلاد في دور جديد من النضال لاستكمال الجلاء والسيادة، وتوصلت هذه الحكومة لاتفاقية مع المفوض السامي الفرنسي في 22 كانون الأول/ديسمبر 1943، لإدارة المصالح المشتركة في سورية ولبنان مع حق التشريع بدون قيد أو شرط.

في 1945اندلعت احتجاجات ومظاهرات عمت دمشق ومدناً أخرى، بعد أن أعلنت فرنسا نيتها إرسال قوات جديدة إلى سورية، وعلى إثرها قصفت فرنسا البرلمان السوري في 29 أيار/مايو من العام ذاته، وفي 1946، رفعت الحكومة السورية القضية إلى «مجلس الأمن» مطالبةً بإنهاء الانتداب الفرنسي، وتم تعيين جلسة لذلك، فكان فارس الخوري مندوباً لسورية في تلك الجلسة، وقبل بدئها جلس الخوري في المكان المخصص للمندوب الفرنسي مدة 25 دقيقة، ما أثار غضب المندوب الفرنسي، فقال للمندوب الفرنسي: «سعادة السفير، جلستُ على مقعدك 25 دقيقة فكدّتَ تقتلني غضباً وحَنقاً، إن سورية استحملت سفالة جنودكم 25 سنة، وآن لها أن تستقل»؛ ونالت سورية بعد ذلك استقلالها، بموجب قرار مجلس الأمن بجلاء القوات الأجنبية عنها، فكان خروج آخر جندي فرنسي في 17 نيسان/ابريل 1946.

أدرك السوريون، متأخرين، أن سورية بحدودها المعروفة اليوم، هي المكان الواقعي الذي ينبغي أن يفكروا فيه وبمستقبله، ولكن هذه الأفكار ولِدَت في رحم المعاناة التي يعيشونها اليوم، حيث تشظت خارطتها ولا أحد يعلم متى ستلتئم من جديد!، وبات معها ضرورة جلاء واستقلال جديد لسورية، تعود إليها أعيادها، مع حق تقرير المصير للشعب السوري، ووجوب مراعاة القانون الدولي، واحترام التزاماتها الدولية، وخروج جميع المقاتلين الأجانب عن أراضيها، من أفراد وجيوش، متوجةً بجلاء الفاشية الأسدية بكل أدواتها ومرتكزاتها.

الشعب السوري الذي حقق الجلاء عن المستعمر الفرنسي قبل 75 عاماً، جديرٌ بأن يستعيد استقلاله ويُجلي من جديد كل الاحتلالات التي جاء بها الاحتلال الأسدي، فقد أثبت شعبنا السوري، خلال السنوات العشر منذ انطلاق ثورته، أننا نستحق الحياة، وأن نتعايش كمكونات صفاً واحداً في وجه الظلم والاستبداد والإرهاب والعدوان الممتد خلال العقود الستة الماضية، وتحمّل المسؤولية الكاملة عن إنجاز حريّة بلادنا ومواطنينا، من خلال وحدة الأداة والهدف كما فعل الآباء المؤسسون للجلاء عام 1946، ليعود شعبنا شعلةَ إلهامٍ لتحقيق الاستقلال والحرية، وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة الموحدة لكل أبنائها، ويكتب بيده النهاية المشرِّقة لقضيته العادلة.

 

 

عبد الباسط حمودة

 كاتب سوري

Whatsapp