إلى متى سياسة دفن الرؤوس بالرمال؟


هذه أيام القمّمْ الدولية؛ المنتدى الاقتصادي في روسيا يتلوه قمّة أميركية بريطانية- هي الأولى بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي- ثم قمّة أميركية- روسية ثم قمّة الدول الصناعية السبع والقمّة الأميركية- الأوروبية وقمّة أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ فالدول الأوروبية ليست الوحيدة المستفيدة من انتخاب جو بايدن رئيساً لأميركا، وإنما الصين وروسيا أيضاً، وأن إيران هي من كبار المستفيدين لأسباب عديدة، فهذه الأيام قد تكون مصيرية بما ستشهد من تطورات في السياسة الدولية وانعكاساتها الإقليمية، حيث تستعيد ألمانيا مجد القيادة في حفلة وداعيّة للمستشارة ’أنغيلا ميركل‘، وستتربّع إيران على الأحاديث والقرارات وتزهو بانتصار تكتيكاتها واستراتيجيتها، فلقد حالفها الحظ بفوز بايدن بالرئاسة بعدما استثمرت كثيراً في خسارة ’ترامب‘ وراهنت على الصبر الاستراتيجي. 

لكن أوروبا هي التي قامت وتقوم بدور الوكيل عن النظام المجرم في طهران، وهي التي خاضت حروبه الدبلوماسية والاقتصادية بالنيابة عنه، وأوروبا اليوم هي الشريك الفاعل لإدارة بايدن في تعويم إيران وتعزيز قيادتها الإقليمية، وبذلك يقدّمان هدايا استراتيجية لكلٍ من الصين وروسيا اللتين ترقصان على الأنغام الأميركية- الأوروبية الجديدة بمتعة فائقة وخفيّـة.

وواضح أن استعادة العلاقة التقليدية بين دول حلف شمال الأطلسي ستكون محوريّة في قمّة الناتو للانقلاب على سياسة ’ترامب‘ حول المساهمات المالية، الأمر الذي أثار غضب الأوروبيين، وبايدن يريد إضفاء الطبيعة التقليدية مجدّداً على تركيبة الناتو ويريد إزالة أي توتّر، وفي رأيه يحب أن يبقى الناتو الحلف كما تم عند ولادته وأن فعاليته هي في الحفاظ على تقليديته وليس في تطويره وفق تصوّر ’ترامب‘.

والرئيس بايدن قرّر أن أولويته في السياسة الخارجية هي إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وهكذا ارتقت دول الاتحاد الأوروبي الى مرتبة الشريك بالتساوي، وليس الشريك المُلحَق؛ إيران وجدت نفسها فجأة في مرتبة الحاجة الأميركية بدل الاستغناء عنها زمن ’ترامب‘، وهكذا انقلبت أوروبا من خانة الاضطرار للإذعان لخانة الوكيل عن المصالح الإيرانية لدى الإدارة الأميركية الجديدة، وهكذا وضعت طهران قدميها في مياه فاترة وتركت المهمّة لأوروبا وكيلها الوفي الجاهز لبذل كل جهد بالنيابة عنها لتحقيق كل أهدافها وغاياتها.

لذلك ستكون طهران حاضرة كليّاً في القمة الأميركية- الأوروبية رغم غيابها ظاهرياً، فلقد وجدت لنفسها حليفاً قديراً متمكّناً متأهّباً لتحقيق مطالبها وجاهزاً للمعركة نيابةً عنها إذا لزم الأمر؛ أوروبا الأمس في زمن ’ترامب‘ سبّبت القلق والغضب لطهران، واليوم لها مكانة مميّزة لدى واشنطن وطهران معاً، فواشنطن في حاجة إليها لدى طهران، وطهران في استراحة وراحة مع أوروبا القادرة اليوم على تلبية احتياجاتها من واشنطن بلا عناء.

ما حقّقته وتحقّقه أوروبا، بقيادة ألمانيا، لإيران تاريخي ومصيري، الوكالة الدولية للطاقة الذريّة استنتجت أن القُدرات الإيرانية النووية تعدّت الاحتواء وباتت متمكّنةً عسكرياً، إذا شاءت؛ أوروبا قرّرت أن هذا الاستنتاج كافٍ للانصياع إلى ما تريده طهران كي لا تُقدِم إيران على تصنيع القنبلة النووية، ويطيب للأكثرية الأوروبية أن تحمّل ’ترامب‘ مسؤولية تطوّر القدرات النووية الإيرانية لانسحابه من الاتفاق النووي، وهكذا يبرّر هؤلاء الانصياع لطهران ويتناسون أن إيران كانت واستمرت وما زالت تنفّذ مشروعها النووي بغض النظر عن الاتفاق النووي.

فأوروبا قرّرت أن هاجسها النووي يبرّر قفزها على مبادئ سيادة الدول وحقوق الإنسان، وإدارة بايدن أتت لتلاقيها بذات المفرق المصيري، وهكذا اتفق كل الغرب على تجاهل متعمّد لما يفعله النظام اللاهي في طهران، داخليّاً بقمعه حريات أساسية يزعم الغرب أنها في فهرسه الإنساني والسياسي واتفقت أوروبا وأميركا بايدن على الإقرار بشرعيّة ما يفعله نظام إيران الإجرامي؛ وخارجياً اتفقت واشنطن والعواصم الأوروبيّة على أن ما يحدث في العراق، مثلاً، ليس شأناً من شؤونها بالرغم من وضوح استفزاز إيران لها في خضمّ المفاوضات النووية بفيينا، وبشكل متعمد، لامتحان صدق تعهد هذه العواصم بعدم التدخّل في السياسات الإيرانية الإقليمية التي تدوس على سيادة الدول، وتقتل أهلها وتنهب ثرواتها، من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية واليمن؛ وبالتالي قرّرت إدارة بايدن والعواصم الأوربية إضعاف تلك الدول بمفهومها التقليدي والعملي، ففي العراق، مثلاً، حيث "الحشد الشيعي وغير الشعبي" ينفّذ حالياً بإملاء من "الحرس الثوري" الإيراني، مهمّة تدجين السيادة والدولة، وفي سورية يقوم نفس الحشد الطائفي الشيعي والإرهابي المتعدد بنفس المهمة، تدجين السيادة والدولة لصالح الملتاث بشار، وكيلهم وذيلهم جميعاً، وفي لبنان المدمر على أيدي مجاميع "حزب الله" الإرهابية والمتحكمة بالتدجين ونسف السيادة لصالح نفس الحلف المشبوه المسمى حلف المماتعة والمقايمة، وما يجري في اليمن ليس بعيداً عما ذكرنا ولكن بأيدي عملاء "الحرس الثوري"، مجاميع الحوثيين وقياداتهم في عُمان ومن قصورهم المخصصة هناك بعلم جميع دول الخليج المُذعنة لسياسات الغرب وعواصمه. 

إن الهوس النووي امتلك الغرب ولا يعنيه من فاز بانتخابات المهزلة بدمشق، كما لن يعنيه من سيفوز بانتخابات مهزلة طهران، وهذه موسيقى مريحة للآذان الصينية والروسية على السواء لأن كلاهما يعتبر إيران حليفاً ورديفاً لمصالحهما في منطقتنا والشرق الأوسط ككل.

فماذا سيُقال عن "إسرائيل" التي لها مكانة خاصة لدى واشنطن والعواصم الأوروبيّة، وأشد ما يطلبه المفاوضين الأوروبيين والأميركيين إقناع الإيرانيين بتخفيف لهجة العداء نحو "إسرائيل"، ويبدو أن المفاوضين الإيرانيين لن يقاوموا هذا الطلب.

فباسم إنجاح المفاوضات النووية رضخت إدارة بايدن والحكومات الأوروبية لشروط طهران باستبعاد أي حديث عن صواريخها وعن سياساتها الخارجية التي يصيغها وينفذها "الحرس الثوري" في الجغرافيا العربية؛ هذا يعني أن العواصم الغربية في صدد تسليم إيران صكاً مفتوحاً للتصرّف إقليمياً، فيما تعمل بالموازاة على ترتيب أحاديث القبول بين طهران والعواصم العربجية.

وماذا عن الصين وروسيا؟ لماذا ترتاح العواصم الغربية لامتلاك روسيا لسورية، أو للصفقة التاريخية العسكرية والاقتصادية بين الصين وإيران؟ ولماذا لا تبالي هذه العواصم بقضم السيادة في دول عربية كانت تعني لها كثيراً في الماضي القريب مثل العراق ولبنان وسورية؟ وكيف توقّفت فجأة تهَم "الإرهاب" لإيران أو لـ"حزب اللهّ"؟ وهل في الأفق اتفاقات عابرة تبقى تحت تأثير السياسات الداخلية المتقلّبة أو أنها حقاً القطع المتناثرة لما يسمّى بـ"الصفقة الكبرى" التي تسعى إدارة بايدن والعواصم الأوروبية وراء إتمامها؟

 

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

Whatsapp