من درعا هلَّت البشاير


درعا تقاوم وحيدة.هي ذي تقطع من جديد أصعب السُّبل بين الكرامة والخنوع، بين الكبرياء والذُّل، بين أن تكون أو لا تكون. هي الَّتي قاتلت طلبًا لثارات حمزة الخطيب وثامر الشَّرعي؛ لمعاناة أمثالهما وأهليهم لسنين طوال. وتقاتل اليوم ثأرًا لكلِّ المدن الشَّهيدة وظهرها إلى الحائط، وآخر صرخات الحرِّية مصلوبة على حائط الجامع العمري فيها.

درعا تقاتل لوحدها وقد تكالب عليها كلُّ الصَّعاليك. وهي الَّتي تحارب أعداءً ظاهرين من أمامها، متمثِّلين بميليشيا جيش الأسد والميليشيات الطَّائفيّة الَّتي تسانده، وعدوًّا باطنًا من ورائها تعلَّم البراغماتيّة المقيتة كابرًا عن كابر، وليس لأهلها غير الصَّبر بعد الله، والحرِّيّة تراوح بين السَّراب والحلم بانتظار الفزعة. لكن ... من أين ستأتيها الفزعة؟

لم تعد هناك عاصمة "تنتخي" لها بعد أن غاب أربعاؤها ومضى رجالها، والشَّهبا تتلمَّس ذكريات ليالي الأنس البعيدة على المحلَّق بعد طيِّ صفحة أبي الطَّيِّب وأمثاله، والمنطقة الشَّرقيّة تحت سيطرة شركاء النِّظام في وليمة الدَّم والأشلاء، أولئك الَّذين يحاولون إثبات وجود لمعبدهم فيها ولو بالبندقيّة، وإدلب معتقلة لدى شركة النُّصرة أو فتح الشّام للمقاولات "الثَّوريّة" أو "الإسلامويّة"، وهذه لا ولن تتحرَّك مهما حدث إلّا بعد الدَّفع من تحت الطّاولة. أمّا من يدعون بالفصائل في الشَّمال "المحرَّر"، فهؤلاء منشغلون بالتَّهريب والتَّعريض والخوَّة. وما من داعي للحديث عن الائتلاف والحكومة المؤقتة وحكومة الحركة التَّصحيحيّة، فهؤلاء منشغلون بمنح (أبو عمشة) تكريمًا على الّلاشيء الَّذي فعله.

الوقت لا يسمح بترف الحديث برومانسيّة من قبيل "يمكنك أن تدوس الأزهار لكنَّك لن تؤخِّر الرَّبيع"، فالرَّبيع تأخَّر جدًّا ولم تتفتَّح الأزهار مجدَّدًا بعد أن ديست. والواقع لا يتيح المجال لترديد كلمات محمود درويش: "إن عشت فعش حرًّا، أو مت كالأشجار وقوفًا"، فما في الغربة حرِّيّة، والموت لم يبق شجرًا ولا مآذن ولا بيوت ولا أحلام إلّا ورماها أرضًا، ومعها الحرِّيّة مرميّة.  المشهد كئيب، بل هو أكثر كآبة من أن تستطيع كلمات أن تصفه؛ والوضع بائس، بل إنَّه أشدُّ بؤسًا من حال أهلنا في شتاءات الشَّمال. العالم كلُّه، بعربانه ومسلميه وغربييه، من مدَّعي الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير، وشرقييه، من أكلة كلِّ شيء حتّى الحق، أعلن بسكوته على ما يجري وقوفه إلى جانب الملك غير المتوَّج ليهودا والسّامرة وانحيازه لمعسكر الأشرار والشُّطّار وعصابات التَّشبيح والتَّعفيش والعار. وها هم جميعًا شحذوا أبصارهم لمتابعة الجولة القادمة من صراع بين درعا الجميلة وعصابات الوحش. 

وبقيت درعا ... درعا الرَّقيقة كرقراق ماء مزيريب، الخضراء دائمًا مثل زيتونها، الكريم رجالها كرم شلالات تل شهاب، الشّامخات نساؤها شموخ تل الجموع؛ وقد أبت إلّا أن تبقى النَّجمة الأخيرة في سماء الحرِّيّة البعيدة كما كانت النَّجمة الأولى في ذلك الأفق الرَّحب للحلم الأوَّل.

أتراها ستتحوَّل إلى دمعة أخرى كبيرة تجول في الأجفان؟ أم سيبرز من الّلامكان من يوقف العدوان؟ 

لا يملك أحد أن يعد درعا بغد أفضل. لا يملك أحد أن يؤكِّد لحمائمها المهاجرة أنَّها غدًا سوف تعود إلى السُّقوف الطّاهرة، فالخوف، كلُّ الخوف، على أطفالها الَّذين يلعبون من قصف طائفي مجنون. ليس لنا إلّا أن نصلّي حتّى تذوب الشُّموع ...ليس بيدنا إلّا أن نركع حتّى يملَّنا الرُّكوع. ليس أمامنا إلّا أن ننتظر أن ينقشع السَّواد عن هذه الجميلة محروقة الأصابع. وأرجو أن نلتقي بثورتنا مجدَّدًا على رباها الزّاهرة، في يوم قادم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا.

 

 

محمد أمين الشامي

كاتب سوري

Whatsapp