أمن وأمان


 

       واقعيّة قصيرة حدثت بالرقة في التسعينيّات من زمن «كنّا عايشين»

------

 

وصل إلى المدينة قبيل الظهر وقد ترك في القرية امرأته الحامل وحيدة تتلوّى ببوادر ما يسمّى طبّيّاً بالمخاض العسير، والنسوة يرددن فيما بينهنّ المصطلح الشائع بمثل هذه الحالة: (مصبحة، ممسية).

وصل المدينة وهو يأمل الحصول على إعفاء، للمرّة الأولى بحياته المهنيّة، من مهمة المراقبة الامتحانية والتصحيح، بسبب حالة زوجه في القرية.

- (السيّد) مدير التربية في حالة استنفار دائم في المركز الصيفيّ المؤقّت للامتحانات بمدرسة جميلة بو حيرد.

بين التربية والمدرسة مسافة مرهقة لمتعب مثله وبهذا الجوّ الحزيراني الملتهب، ولكن لابد من ذلك مهما كلّف الأمر. 

أسرعَ المدرس بطريقة تتراوح بين الهرولة والركض، يتصبّب عرقاً لعلّه يحظى بالموافقة، ولا يفوته (الباص) الوحيد على خط القرية.

صعد الدرجات الستّ على مدخل المركز، ليستوقفه على الباب الحديدي المشبّك رجال دوريّة الحراسة، كانوا ثلاثة عناصر وقائدهم عريض المنكبين «شلولخ»، على حد تعبير (عادل إمام)، ومنعوه من الدخول، فالمدير مشغول كما أخبروه.

 ألحّ كثيراً، رفضوا، شرح لهم وضع زوجته، مبرزاً التقرير الطبي المبيّن حالتها، رفضوا، صرخ عالياً.

خبط الباب الحديدي بكلتا يديه محتجاً، لعل المدير يسمع صراخه فيلبي طلبه، لا.... 

لا فائدة تُرجى...

توسل إليهم، استجداهم، خفض صوته، لا فائدة..

صرخ ثانية، صرخ بأعلى طبقة في حنجرته ليفاجأ بلكمة قوية من كبيرهم هزت كيانه، وعندما حاول الاحتجاج والدفاع عن نفسه، انقضوا عليه جميعاً، وانهالوا عليه بكلّ ما تلقوه من تدريب على مكافحة الإرهاب (الشعبيّ) ضرباً ولكماً ورفساً، حتى انهار تماماً ممدّد الجسد على الدرجات الستّ، ورأسه على استراحتها السابعة. 

ركله (الشلولخ) بقدمه مزهواً زهوة الانتصار في ساحة الوغى، وختم الرسالة العظيمة بأن وضع قدمه فوق رأس المعلم (الضحيّة) وعنقه، شامخاً برأسه يتلفت ذات اليمين وذات الشمال كديك، وقال له: 

  • كيلا تتطاول على أسيادك مرّة ثانية يا .....

حملوا المعلّم مثخناً بالجراح جسداً وكرامةً وألقوه بصندوق سيّارتهم البيك آب إلى الفرع الجنائيّ.

التأمنا في الاجتماع الذي كنا نحضره مساء كل امتحان ليدلي كل مندوب بملاحظاته حول سير امتحانات هذا اليوم والاستعداد لمهام يوم جديد، ومادّة امتحانيّة جديدة.

كان نقيب المعلمين ضيف الاجتماع ذلك المساء مرافقاً (السيّد) المدير، الذي استهلّ الاجتماع، بعد الترحيب بضيفه، بالثناء على جهودهما الخارقة اليوم في الدفاع عن زميلنا المدرس المعتقل.

وبينما كان الانفعال شديداً، والنقاش حامياً والمتعلق بحرص الإدارة على التعليم والمعلّمين، والتربية والمربّين، فُتح الباب فجأة «بما يشبه الاقتحام» ودخل رجل غريب يشبه ال (شلولخ) هو الآخر، فهبّ المدير واقفاً، مغادراً طاولته مسرعاً بوجه بشوش نحوه، فتلاقيا في منتصف القاعة، وتعانقا، وبإيماءة خفيفة منه غادرا القاعة متشابكي الأيدي، وانقضت برهة من الذهول علينا، قبل أن يعود السيد المدير وقد تهلّل وجهه بالفرح، وأخذ مكانه وراء طاولة القيادة مبتسماً منتفخ الصدر والأوداج، وبادر بالقول متباهياً رامقاً نقيب المعلّمين بنظرات يستمدّ منه بهما الثناء:

  •  أبشّركم زملاء لقد أخبرني (حضرة العريف) تواً أنّهم وافقوا على رفع تهمة (مقاومة رجال الأمن) عن زميلنا (المعتقل) ما سيسمح بإطلاق سراحه بعد أن تبرأ جراحه) خلال أيام إن شاء الله.

تلفّت بعضنا إلى بعض، مستغرباً الانتصار التاريخي للمعلمين على الجلادين، والامتنان والشكر من الضحية للقاتل على إطلاق سراحه ...!

استقلّ زميلنا (الباص) عائداً إلى القرية، لازال شيء من كدمة زرقاء حول عينيه، وألم في عموده الفقري، وحاول أن ينسى ذلك، ويتحامل على وجعه، عندما استقبله الجيران يبشرونه بتوأم بنات رزقه الله به.

سألته زوجته بلهفة عن اسمين لهما، فابتسم قائلا دون تردّد الأولى:

  • أمن 

والثانية:

  • أمان .......!

 لاحظت الزوجة دمعة تتحدّر على خدّه، فابتسمت له، وهي تظنّ أنّها دمعة الفرح.

 

 

عصام حقي

شاعر وكاتب سوري

Whatsapp