تخبط أميركي في خدمة الإرهاب


اعترف الرئيس بايدن في خطابه الأخير بعد انسحابه من أفغانستان بأن أميركا في عهده ستكون قادرة ومستعدّة فقط للتفاعلية ردّاً على استفزازات قد تضطر للإنجرار إليها، ولن تأخذ زمام المبادرة أو الإستمرار في القيادة، لأنها لن تكون مسؤولة عن الأمن والاستقرار على الصعيد العالمي أو داخل الدول الصديقة، وهذا يشكّل تحوّلاً جذرياً في موقع أميركا وعلاقاتها مع حلفائها، كما في مشاريع الدول المنافسة لها، وفي مقدمتها الصين.

فلا جديد تحت الشمس، لأن هزيمة أميركا في أفغانستان عام 2021 تعيدنا من جديد إلى 11 أيلول/سبتمبر 2001، والعالم الذي يستذكر 11 أيلول  هذه الأيام لم يتغير كثيراً، فأميركا تؤمن بالبطش، والتنظيمات الجهادية تؤمن بالعنف والإرهاب، وعالم إسلامي في حيرة تجاههما، ووطن عربي في أسوء حالاته تنموياً وسياسياً ومعرفياً وحضارياً!

الكل يراقب ماذا ستفعل إدارة بايدن بما قد أنجزته أميركا في سورية والعراق بعدما هدرت سنواتها العشرين في أفغانستان، فها هي تتفاوض مع حركة "طالبان" التي تُمسك بعصا تهديد أرواح الأميركيين في كابول إذا رفضت إدارة بايدن تلبية ابتزازاتها بفك تجميد الأموال التي تعتبرها من حقها، وها هي المنظمات الإرهابية تراقب انهيار الغطرسة الأميركية وتقتنص الفرصة، وإدارة بايدن تتخبّط في أخطائها فيما قيادة حزبه الديموقراطي تعضّ أصابعها قلقاً، وإن "طالبان" ليست محرجة، فيما وضع أميركا في غاية الإحراج، والمصادر  تتحدّث عن تهديدات من "القاعدة" و"داعش" لأميركا بلسان "طالبان" وعبر ضيوفها بعد مرور 20 سنة على إرهاب 11 أيلول/سبتمبر 2001.

قد تهرول إدارة بايدن لإبرام الصفقة النووية مع إيران- كما صفقتها السرية مع "طالبان"- وذلك من أجل قطف نجاح في السياسة الخارجية يحتاجها بايدن أشد الحاجة، لكن طهران تدرك أن الرئيس الأميركي حشر نفسه في الزاوية وهو في حاجة للإنقاذ، وثمن الإنقاذ هو المزيد من الإبتزاز لا سيّما أن تقويم القيادات الإيرانية هو أن لا بأس أبداً بعدم إبرام الصفقة النووية الآن بعدما سقطت الهيبة الأميركية في أفغانستان، فالقيادات الإيرانية تستعدّ للمكاسب بمنجم الثراء في العراق بأعقاب تدحرج القوات الأميركية منه بلا استراتيجية وبلا دراسة للعواقب تماماً كما حصل في أفغانستان، فهذه القيادات منشغلة أكثر بمشروع الفوضى الذي تريده للعراق لأن أجواء المشروع الإيراني للعراق باتت مواتية أكثر بعد تطوّرات أفغانستان، خاصة ما يتعلق بالنفط والأموال العراقية فور السيطرة عليه، وثمن الانسحاب الأميركي وانتصار إيران في العراق باهظ، وطهران استنتجت أن إدارة بايدن ستضاعف عزمها على الإنسحاب من العراق بعدما أخفقت في أفغانستان، وترى إيران أن الغضب الأوروبي من الأداء الأميركي في أفغانستان ومن فشل اجتماع مجموعة السبع بسبب تعنت بايدن سيترجم نفسه بمضاعفة الدعم الأوروبي لصفقة نووية مع إيران ومضاعفة الدفع الأوروبي بإدارة بايدن للتخلّي عن مطالبتها طهران بمزيد من الضمانات النووية، لأن طهران واثقة من تشغيل الأوروبيين لحسابها في الموضوع النووي كالعادة.

ولن يكون قرار بايدن سهلاً عند الإختيار بين انهيار مفاوضات فيينا النووية وبين الهرولة للرضوخ لإملاءات إيران النووية وسيكون مُداناً في الحالتين وسيُحاسَب على أيادي قيادة حزبه الديموقراطي بقدر ما قد يتأهب الجمهوريون ودونالد ترامب للإنقضاض عليه.

منطقيّاً، وكما تفيد المؤشرات، قد تنوي إدارة بايدن الانسحاب من سورية أيضاً، الأمر الذي يثير الاستغراب نظراً لرخص البقاء الأميركي في شمال شرق سورية وهذه المنطقة تبدو مرتبطة عسكرياً مع غرب العراق، وعليه سيؤثر الإنسحاب الأميركي من العراق على قرار البقاء أو المغادرة الأميركية من سورية، وحتى الأمس القريب، كان مستهجناً حتى التفكير بالإنسحاب من سورية لأن السيطرة الأميركية على تلك المنطقة تعني عمليّاً عدم قدرة حكومة بشار السيطرة على مواردها هناك، وتعني أيضاً أن لدى أميركا النفوذ على الأداء الروسي والإيراني في سورية، إلى جانب تكبيل بشار أسد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من خلال السيطرة بالنيران جويّاً، وليس عبر الجنود الأميركيين على الأرض، فلم يكن حينذاك منطقياً أن تهرول أميركا من سورية، وللتذكير اضطر دونالد ترامب للتراجع عن قرار الهرولة للأسباب المنطقية التي وضعها أمامه العسكريون باعتباره ليس في مصلحة الأمن القومي الأميركي، إذاً فالهروب الأميركي من العراق وسورية لن يكون في مصلحة أميركا وهو سيكون مُكلِفاً لإدارة بايدن ويخدم في الوقت ذاته إيران عراقياً، ويخدم روسيا سوريّاً، كما ويخدم الصين في الحالتين، ويجرّد الولايات المتحدة من المنافع الإستراتيجية.

في الأمس تسامح الإعلام الأميركي وجزء من الرأي العام مع بايدن وسياساته، إنما اليوم تبدو فسحة التسامح أضيق، والتذمّر لقادة الحزب الديموقراطي أعمق.

فما ترثه الصين وروسيا نتيجة إقرار بايدن بفشل أميركا وضعفها يعزّز تموضع كل منهما في المنافسة الجيوسياسية، ويشمل فرزاً جديداً لما يمكن لهما اقتناصه اليوم نتيجة الفرص الذهبية المُتاحة، إذ إن تايوان ترقص بإغراء في المخيّلة الصينية، والعراق يستعيد وهجه في الذاكرة الروسية وسورية قابعة تحت القبضة الروسية، وأميركا بايدن ستغضّ النظر- كما الإدارات الأميركية السابقة- عن تجاوزات الحكومات لحقوق الإنسان كي لا تتورّط، بالرغم من تنافي هذا المبدأ مع تعهّداتها المُعلنة، مما سيفسح المجال أمام الصين واسعاً للإختراق والتغلغل استراتيجياً، والإستفادة من موارد طبيعية غنيّة تحتاجها في مشروع (الحزام والطريق) البالغ الأهمية في خططها البعيدة المدى، وأفغانستان مثال واحد على اندفاع الصين لملء الفراغ الذي تتركه أميركا وراءها، حيث الثروة المعدنية الضخمة. 

وروسيا إلى جانب الصين، مستفيدان أساسيان من تذبذب وتخبط السياسة الأميركية المتهالكة، وكلاهما ينظر إلى مشكلة استعادة المنظمات الإرهابية ثقتها وعزمها بأنها مشكلة للولايات المتحدة أكثر مما هي مشكلة لهما؛ فماذا ستفعل الآن إدارة بايدن إذا انطلق الإرهاب مجدداً من أفغانستان أو العراق نحو الأراضي أو المصالح الأميركية، بعد أن تكون القوات الأميركية قد انسحبت منها؟ وهل هو بعيدٌ عن تقدير تلك الإدارة الدور الإيراني الراعي للإرهاب كما دور سلطة أسد التي لطالما رعتها إدارات أميركية سابقة؟ وما هو منعكس ذلك على مستقبل سورية وثورتها؟

 

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

Whatsapp