البعيدة كحكاية خرافية


 

 

كنتُ أستمع (لأحمد كايا) في الطريق إليكِ، هل تعرفين أحمد كايا؟؟.

كنت صغيراً على حبك، وبدائياً بأدواتي الخجولة، وقفت أمامك لأقول لك:

  •  هذا ما عندي.. 

لم أقدم لك العطر لأنني ذات مرة اشتريت لامرأة عطراً وكان عطراً للرجال، لم أخجل يومها بل قلت لها بكل صراحة:

  •  لم أشترِ يوماً عطراً لامرأة وفي بيتنا لم نكن نستخدم العطر كنا نملك زجاجة كولونيا للضيوف.

 وتأخرت عليك في أول موعدين بيننا، تأخرت ساعة كاملة وقلت لك: 

- أزمة مواصلات.

 هذه الكلمة تعلمناها منذ الصغر وبررنا بها كل تأخير على العمل، لم تكن هناك أزمة مواصلات بل كانت هناك أزمة أكبر بكثير وهي: كيف سأقف أمام امرأة أنيقة مثلك بحذائي المغبر من مشاوير الأنهار، وبنطالي الذي أنام به، كيف سيحدث كل هذا؟؟. 

حين رأيتك من خلف الزجاج وفي أذنيك سماعات بيضاء صار عندي فضول أن أعرف ماذا تسمعين وقبل كل شيء سألتك:

  •  ماذا تسمعين؟

 فقلت بابتسامة:

  •  أسمع أليسا / حالة حب /. 

ثم ابتسمت لك ولم أقل ماذا كنت أسمع أنا في الطريق، كنت أسمع أحمد كايا / اليوم أيضاً لم أمت يا أمي /.

هل تعرفين أحمد كايا؟، فنان كردي تعرض للضرب بالملعقة في حفل كبير من قبل فنان تركي لأنه غنى بالكردي على مسرح تركي، وبعد سنوات طويلة اعتذر ذلك التركي ولكن كان (أحمد كايا) ميتاً، فضحكت أنا كيف يعتذر من ميت وحزنت لأن إنسانيته استيقظت بعد سنوات وصارت تعذبه.

أحمد كايا لم يدفن في وطنه، إنه يرقد في باريس.

ثم جلسنا ولم أستطع النظر في عينيك، كنت أحاول أن أظهر في صورة سعيدة أمامك، لكنك كنت ثاقبة النظر ورأيتِ كل ما لم أقله لك، حتى أنك سمعت صوتاً خرج من همسي:

  • / بابا شيلني / 

قلت لي ما هذا الصوت؟؟

 فضحكت أنا ولفلفت الأمر، بأنه دعاء سوري يقال حين لا أحد سوى العدم، حين المحنة تفوق موت ألف ملاك.

ثم خرجنا وكنت تتحدثين عن الحب بينما أنا أتذكر الحرب، حذاؤك الأحمر خدعني في كل خطوة فكنت أحسبه دمي الذي يسيل خلفك، وقلت لك بأن كل شيء في سوريا يسير عكس الطبيعة، حتى أنك صدقت أن الشقائق في سوريا هي سائل نسكبه في تجاويف الأرض فتنبت أزهاراً حمراء.  

كنت بدائياً بكل شيء حتى أنني فعلت مثلما فعل والدي قبل خمسين عام حين التقى بأمي في يوم زفافه، لم يمسك يدها خجلاً من أعمامه، أما أنا فخجلت من أشياء يصعب فهمها.

  • خجلت من أمي.. من بناتي.. من مدينتي التي تموت.

وفي كل شارع مررنا به حلمت بسيلفي معك ولم أفعل، أيضاً خجلت وخفت أن أرى شكلي وأصدق بأنني أعانق قمراً.

يشير الطفل بإصبعه إلى القمر ويتحدث إليه معتقداً أنه لو صعد على كرسي فهو سيلمس القمر، وحين يكبر، يضحك على تلك الأيام كم كانت سهلة لأنه صار يدرك مشقة الوصول إلى القمر. 

لو أنني الآن طفل لصعدت على الكرسي ولمست خدك مبتسماً، لكنني كبير يا حبيبتي، كبير بحجم مقبرة جماعية، بحجم خارطة الحرب، كبير أنا يا حبيبتي بحجم سبع بحيرات من الدم، كبير بحجم حسرات أمي.

آخ ... لو أن أمي تتذكر.

هذه الجملة ليس لها علاقة بالقصة فهي مطلع قصيدة لي عن أمي لم أنشرها من قبل.

كنت صغيراً جداً على حب امرأة بهذا الاتساع وبهذه الرقة وهذا الكمال.

كنت صغيراً لأنني خبأت التالف من أجزائي ومضيت بجزء واحد وصغير نحو الحياة، لم أكن أريد لأحد أن يعرف شيئاً عن تاريخي الطويل من الخسارة.

كنت صغيراً على حبك لدرجة أنه لا أحد سيصدق بأنني أحبك أنتِ ...

أنت البعيدة كحكاية خرافية.

 

 

محمد سليمان زادة

شاعر وكاتب سوري

Whatsapp