سورية.. من صفقة إلى صفقة  


نضجت مع الوقت وخاصة بعد مسرحية حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، صفقة (حافظ- ميرفي) عام 1974 بين نظام حافظ أسد فاقد الإرادة- إلا الحفاظ على سلطاتٍ اغتصبها- وبين السفير الأميركي- حينها- «ريتشارد ميرفي» ممثلاً لدولة قوية تسمح لنفسها بالتدخل بشؤون دولة أضعف وفاقدة للإرادة، أي بعد أربع سنوات من استيلاء حافظ أسد على مقاليد السلطة في سورية بالطريقة والدعم الغربي التي باتت معروفة، فقد طوِبت الصفقة سورية لصالح نظام فئوي طائفي ولتطوِب لبنان- بالمعنى السياسي- أيضاً بهدف السيطرة على فصائل المقاومة الفلسطينية وحلفائها ممثلة بالمقاومة الوطنية اللبنانية، تلك الصفقة التي أطلقت العنان لجميع ممارسات وانتهاكات ذلك النظام في سورية ولبنان، التي بدأت بمجازر تل الزعتر في لبنان منتصف السبعينات ومجازر حماة في سورية بداية الثمانينات، وكلها كانت تحت أنظار أميركا و«ريتشارد ميرفي» ومن خلفه الكيان الصهيوني.

حين جاءت ثورات الربيع العربي نهاية 2010 كانت اقتصادات المنطقة العربية قد وصلت إلى أعلى درجات رعاية التخلف والتدهور بجميع مناحي الحياة نتيجة للدعم الأميركي لنظم الطغيان والنهب العربي، بالأخص في سورية الخاضعة لنظام وظيفي «متلوّن»، التي لطالما خطط لها الغرب ورعى نظامها عند كل منعطف ليكون أميناً على حدود إسرائيل حفاظاً على المواثيق معها، وفق صفقة (حافظ- ميرفي) المشار إليها. 

بعد حوالي 11 سنة على الثورة السورية والحرب العاتية على شعبها الثائر، ما يزال النظام متلوناً وتعتبره الإدارة الأميركية جزءاً من معادلة الحل بعد كل المجازر الإرهابية والإنتهاكات الفظيعة التي تمت تحت أنظار الإدارات الأميركية المتعاقبة، وجميع الحلول المطروحة على الطاولة الدولية والإقليمية لم تتمكن من تغيير المعادلة السورية القائمة على وجود نظام الجريمة أو إزاحته، وأيهما الخيار الأفضل أميركياً وإسرائيلياً لإنهاء شلال الدم السوري، فيما بات السؤال الصعب يسيطر على المشهد «ما الفائدة من هذا النظام؟»، وهل يمكن أن يحيا من جديد بعد القطيعة المزعومة- العربية والإقليمية والدولية- على مدار السنوات الماضية، فضلاً عن الجرائم والدمار اللذين لحقا بالشعب السوري؟

حظي النظام بدعم روسي إيراني مفتوح ضمن دور مرسوم أميركياً لكسر الثورة السورية، ليكون هذا النظام قادر على الحياة والتكيف مع المرحلة الجديدة رغم انهياره شبه الكامل من الأعماق خصوصاً على المستوى الاقتصادي، لكن الظروف المحيطة دائماً ومن خلال الرعاية الصهيونية الأميركية المشتركة نفسها تجعلها تصب في مصلحته بشكل أو بآخر، كما في الكثير من المنعطفات، ليُكتب له عمر جديد.

إذ يرى المراقبين أن صفقة الغاز الإسرائيلية الأخيرة عبر مصر والأردن مروراً بسورية وصولاً إلى لبنان هي إشارة أميركية لجهة التغاضي عن عقوبات قيصر، بينما شكلت عودة العلاقات الأسدية مع الأردن إشارة ثانية، تبعها ترحيب أميركي باستئناف الرحلات الجوية بين عمان ودمشق سرعان ما تراجعت الولايات المتحدة عنه، ليبقى السؤال هل فعلاً تراجعت أميركا عن ادعاءاتها ضد بشار أسد؟

القصة بدأت في الثاني من أيلول/سبتمبر الماضي، حين ترأس السيناتور الديموقراطي «كريس ميرفي» وفداً من مجلس الشيوخ في زيارته لبيروت، وركزت مباحثات الوفد على الواقع الاقتصادي المزري ومزاعم تخفيف الإرتهان اللبناني لإيران نفطياً!، فضلاً عن التعاون الأمني مع أميركا، هذا التعاون الذي كشف زيف ادعاءات أميركا وأهدافها، فبعد جولة كريس واستطلاع الوضع في لبنان، خرج بنتيجة مفادها لا يمكن للبنان الإستغناء عن العمق السوري من أجل إبعاد إيران- وكأن إيران دخلت سورية منذ الثمانينات خارج الرغبة الأميركية الصهيونية- وصولاً لإبلاغ كريس للإدارة الأميركية أنه لا يمكن الإستغناء عن النفط والنفوذ الإيراني ما لم يتم تخفيف العقوبات عن النظام السوري القادر بدوره على تأمين الغاز والكهرباء لبيروت، لكن ذلك يتطلب التعامل مع قانون قيصر، وغض النظر عن نظام بشار أسد، وهو بيت القصيد أميركياً، وهذا ما جاء في مقال الكاتب "بريانت هاريس" نشر في صحيفة «ذا ناشونال» الإماراتية في الأول من تشرين الأول؛ بأن «كريس ميرفي» أبلغ الإدارة الأميركية أن خط الأنابيب يتطلب إعفاء من العقوبات الأميركية بسبب مروره من سورية، وكان الملك الأردني عبدالله قد قال في «تموز/يوليو» الماضي بعد زيارته لأميركا ولقائه بايدن بأن بشار باقٍ ونظامه لن يغادر!.

وذهبت «ذا ناشيونال» للقول إن الملك الأردني حث الرئيس الأميركي على القبول بصفقة الغاز عبر سورية، وبالفعل لتتطابق توصيات الملك عبد الله مع نتائج توصية «كريس ميرفي» للإدارة الأميركية، بأن الحل الوحيد لإنقاذ لبنان من الأزمة وإبعاد تأثير إيران هو المضي في صفقة الغاز بين 4 دول عربية عبر إسرائيل, لتأتي في اليوم التالي لزيارة وفد «كريس ميرفي» الأميركي لبيروت، زيارة وفد وزاري لبناني لدمشق لبحث مسألة الغاز والكهرباء من سورية إلى لبنان بعد الموافقة الأميركية على هذه الزيارة، وهي الأولى من نوعها على المستوى الاقتصادي والسياسي.

ثم تتسارع التحركات حول سورية بعد زيارة كريس ميرفي، ليلتقي وزراء الطاقة في الدول الأربع (مصر، الأردن، لبنان وسورية المنبوذة!)، من أجل وضع الإستراتيجية الإقليمية لإمداد لبنان بالغاز والكهرباء وفي ذات الوقت إعادة إحياء الدور السوري في هذا المشروع!، على الفور بدأ النظام السوري بصيانة البنية التحتية لهذا المشروع على الرغم من حجم الدمار الذي لحق بها على نفقته الخاصة حسب الإتفاق!! لتأتي الحركة السياسية والإقتصادية حول سورية باتصال بشار مع ملك الأردن، وتبدأ عمان رحلة التطبيع مع النظام السوري على مبدأ "الأقربون أولى بالتطبيع" بعد فتح المعابر بين البلدين بشكل رسمي وكل ذلك برعاية وقبول من العرب الأقربين، أعداء الشعب السوري وثورته. 

كل هذه الإرتدادات السياسية والإقتصادية حركتها صفقة «كريس ميرفي» تجاوزاً لخطوطٍ زعموا أنها حمراء حيال نظام الجريمة الأسدي، والتي جاءت تتويجاً لشراء الوقت لصالح نظام القتل كما كانت صفقة (حافظ- ميرفي) في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي التي دفعت شعوبنا العربية من ضحايا وأثمان على مدى 50 عاماً- خاصة في لبنان وفلسطين وسورية والعراق- لصالح أنظمة عميلة تابعة لإدارات أميركية لا هم لها سوى ضمان أمن الكيان الصهيوني الغاصب المماثل لكيانات عربية اغتصبت ماضينا وحاضرنا وصادرت مستقبلنا.

 

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

Whatsapp