استراتيجية أعداء الحرية واحدة


 

طالما لم تتوحد جهود الدول العربية بمواجهة الأخطار المحدقة بهم خاصة الخطر الإيراني، ستكون كل تصريحاتهم وحواراتهم مع الرعاة الدوليين لسياساتهم هباءً وغير ذات جدوى.

ألم يكن أقل ما يجب أن يفعله الخليجيون بعد الاعتراف الأميركي والغربي والدعم الروسي الواضح لنفوذ إيران في المنطقة العربية- وخاصة في سورية والعراق ولبنان واليمن، ومن ثم عبر الاتفاق النووي الدولي مع إيران الذي يحاولون إحياءه هذه الأيام- إعلان وحدة فيدرالية وتوحيد الجيوش وأجهزة الأمن الخليجية تحت قيادة واحدة فوراً؟ وطالما أن هذا لم يحصل فهل هناك من ضمانة بألا يؤكلوا بسرعة تفوق كثيراً قضم العراق وسورية ولبنان واليمن؟ أم أنهم سيستمرون بالركون للهراء الأميركي والصهيوني بالدفاع عنهم؟

الجميع ضبط إيقاعه على ساعة "ڤيينا"، كموعد أميركي- إيراني جديد، وكأن الخيارات واضحة: اتفاق مفاجئ؛ ستاتيكو وانتظار؛ أو مواجهة. فأي الاحتمالات أكثر واقعية؟

فمن المفترض استئناف محادثات الاتفاق النووي في "ڤيينا" بعد توقُّف، وشددت مصادر أوروبية أنه ليس واضحاً بالنسبة إليهم موقف القيادة الإيرانية الجديدة بعد تسلم "رئيسي"، سواءٌ في ما يتعلق بسير المحادثات وهل ستُستأنف من النقطة التي توقفت عندها، أم أن إيران ستطالب بإعادة طرح قضايا قد نوقشت واتُّفق عليها، أو في ما يتعلق برغبتها في العودة إلى الاتفاق. 

وما تزال المصلحة الأميركية تكمن في التوصل لحل دبلوماسي يكبح تقدُّم إيران في برنامجها النووي، هذا بعد أن نجحت جهود طهران في مجال تخصيب اليورانيوم على درجة عالية، وبحسب مجمل المواقف الصادرة عن الإيرانيين، لا يمكن التقدير ما إذا كان قرار عودتهم لمحادثات "ڤيينا" هو بنية حقيقية لإجراء محادثات توصل لاتفاق يعيد الوضع إلى ما كان عليه سابقاً، بحسب الاتفاق العائد إلى سنة 2015، أم أنهم قرروا عدم العودة للاتفاق الأصلي، وأن ذهابهم إلى "ڤيينا" هو فقط استجابة للضغوط التي مورست عليهم، وهدفها أن تثبت في نهايتها أن أميركا هي المتهمة بفشل المحادثات (المتوقع سلفاً). 

في كل الأحوال، تذهب إيران إلى المحادثات مع شعور قوي بأنها نجحت في تحريك أدوات الضغط- الدول الأوربية وروسيا والصين ومجاميع الميليشيا الإرهابية المرتبطة بها- وأن الزمن يعمل لمصلحتها، وتذهب الولايات المتحدة إلى المحادثات بعد نجاحها في التوصل إلى تفاهم في الساحة الدولية ومع دول الخليج على أن العودة إلى الاتفاق هي الحل الأفضل، وهي تُظهر نفاذ صبرٍ واضح وتريد بشدة إزالة الموضوع الإيراني من جدول الأعمال كي تتفرغ لمشكلات أكثر إلحاحاً حسب زعمها. 

لقد تم احتواء محاولة اغتيال الكاظمي في العراق بعد الانتخابات، والهدوء بشأن حماقة "قرداحي" في لبنان، وفتح باب التطبيع مع بشار أسد، وعدم الوضوح لنتائج المعارك في الصراع اليمني الذي دخل عامه الثامن خاصة مصير "مأرب"، وكل ذلك بما يتوافق مع الأجندة الإيرانية. 

إذ يبدو أن نهاية المعركة المسلحة في محافظة "مأرب" ستشكل نقطة تحوّل استراتيجية فى المشهد اليمني بشكل عام، فالصراع المسلّح يزحف حالياً على معقل الشرعية- المفككة- مع تطويق الحوثيين للمحافظة من ثلاث جهات: شمالاً من الجوف وجنوباً من تخوم شبوة وغرباً على امتداد الجبهات الممتدة مع صنعاء؛ وتحافظ الميليشيا الإرهابية على وتيرة هجومية متصاعدة على خطوط قوات الدفاع الرئيسية مع افتقار تلك القوات إلى القدرة على إحداث اختراق نوعي، وعلى الأرجح، كل ما تستطيع فعله حالياً هو تعطيل تقدم الميليشيا واستنزاف قدراتها قدر الإمكان. 

على هذا النحو، لم يعد السؤال المطروح حالياً بشأن معركة "مأرب" يتعلق بإمكانية سيطرة الميليشيا الحوثية عليها من عدمه، بقدر ما يتعلق بكيفية حدوث ذلك فى ظل اعتمادها تكتيك "الأرض المحروقة"- بنفس طريقة ميليشيا حزب الله الإرهابية المتعاونة مع نظام الفاشية والقتل الأسدي في سورية- باستهداف كل ما يعترضها دون المبالاة بحجم الدمار الذي تُخلِّفه عمليات القصف بالصواريخ والطائرات من دون طيار، أو الكُلفة البشرية الباهظة، فى ظلّ عدم التفرقة بين ما هو مدني وما هو عسكري، وتداعياتها الإنسانية الصعبة فى بلد يتصدر قائمة الأزمات الإنسانية، حيث تنظر الميليشيا فقط للمكاسب السياسية والاقتصادية التي ستجنيها حال السيطرة على "مأرب"، باعتبارها المعقل الأخير للحكومة وشرعيتها المثلومة، بالإضافة إلى كونها الأكثر غنى بموارد النفط فى البلاد.

يبدو أن السيناريو الاحتمالي لسقوط "مأرب" بيد الميليشيا الحوثية الإرهابية هو السيناريو الأصعب في الملف اليمني عموماً، بالنظر لبعض المؤشرات: 

1.  على الرغم من انعكاسات السيطرة المحتملة على "مأرب" بالنسبة للشرعية، إلا أنها قد لا تعني الانهيار الكامل لهذه الشرعية، لكنها ستكون أضعف بكثير سياسياً من ضعفها الحالي، ولن يضيف رصيداً سياسياً للحوثيين، فلن تكون جماعة أنصار الله الإرهابية الحوثية هي الشرعية البديلة، سوى عند إيران ووكلائها الإقليميين فى لبنان وسورية والعراق. 

2. ينسحب السياق ذاته على المكاسب الاقتصادية التي يترقبها الحوثيون حال سيطرتهم على "مأرب"، وبالتبعية السيطرة على قطاع النفط فيها، فمن السهولة بمكان، بل على الأرجح، سيتم فرض عقوبات على هذا القطاع، ولن تتمكن المليشيا الحوثية من الاستفادة منه، فقط يمكنها تشغيله داخلياً إلى حد ما، وستواجه أزمات متعددة أبرزها أزمة الصيانة. 

أخيراً. إن معركة "مأرب" ستُشكل منعطفاً فى مسار الأزمة اليمنية، وقد يكون عامها الثامن هو عام التحولات الرئيسية، وإعادة تشكل موازين القوى بين الأطراف الفاعلة على الأرض، كالحوثيين فى الشمال والانتقالي في الجنوب، هذا السياق ليس جديداً على الحالة اليمنية تاريخياً، بل يمكن النظر إليه بشكل عام على أنه دورة من دورات التاريخ اليمني، وربما ستكون له حسابات إقليمية مختلفة بالنظر إلى حسابات كلٍ من السعودية وإيران. 

فالسعودية، تاريخياً تعاطت سياسياً مع تحولات المشهد اليمني كمشهد قابل لإعادة إنتاج الفوضى باستمرار، لكن يمكن التكيف معه بالوسائل السياسية والدفاعية الممكنة. 

وترجيح كفة إيران فى معادلة هذا الصراع المتزامن مع مفاوضات "ڤيينا" على المديين القريب والمتوسط سيضيف المزيد من التعقيدات للمشهد الإقليمي وسلبياته، وسيُقوِّض فرص استيعابها وقبولها عربياً ودولياً، شرط أن يحسن العرب استثمار ذلك، وستتحول كُلفة تمددها فى الخارج لعامل ضعف بالنظر للتداعيات السياسية والاقتصادية لهذا التمدد خاصة وأنه سيكون مقيداً بعدم المشروعية فضلاً عن القيود على حركة الحوثيين كوكيلٍ لهــا. 

 

 

عبد الباسط حمودة

كاتب سوري

Whatsapp