شرق الفرات.. في قلب الصراع الدولي


منذ دخول الجيش التركي إلى (عفرين) في حملة سميت  بعملية (غصن الزيتون ) أعلن الرئيس التركي السيد رجب طيب أردوغان أن بلاده قررت التحضير لإكمال مشروعها الأمني في شمال سوريا، وسيتوجه بعد الدخول إلى مدينة (منبج) نحو شرق الفرات لما لها من أهمية إستراتيجية على صعدٍ عدة  "أمنية، جيوسياسية، اقتصادية، وجغرافية " والتي تحد تركيا من الجنوب بطول أكثر من 400 كم تسيطر عليها (وحدات حماية الشعب) العائدة لحزب الإتحاد الديمقراطي الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني وهو في حالة حرب مع الحكومات التركية طوال ما يقارب أربعة عقود والذي يصنف دولياً على أنه منظمة إرهابية، وتحتل موقعاً في المثلث الحدودي بين تركيا والعراق وإيران بالقرب من (جبال قنديل) من جانب العراق الوعرة، وبالتالي ترى تركيا أن سيطرة حزب الإتحاد الديمقراطي على الشمال السوري الموازي لحدودها من الجنوب وإقامة كيان سياسي وقواعد عسكرية تشكل تهديداً مباشراً على الأمن القومي التركي، وانطلاقاً من هذا الاعتبار الأمني، رأت الحكومة التركية أن التحالف القائم بين تلك القوات والتحالف الدولي ضد الإرهاب ودعمها بالسلاح والعتاد يشكل بشكل أو بآخر خطراً على الأمن القومي التركي، كون تلك القوات على تواصل مع الحزب العمال الكردستاني، وهي بدورها تهرِّب قسم من تلك الأسلحة إلى (قنديل) لتحارب بها تركيا، مما انعكس ذلك التحالف بشكل سلبي على العلاقات الأمريكية التركية والتي كانت بين المد والجزر وفقاً للتطورات والمتغيرات على الساحة السورية وأزمتها المستمرة منذ ما يقارب ثمانية أعوام.

ولما كان شرق الفرات قد احتل عنواناً بارزاً للصراع بين القوى الإقليمية والدولية، فهو بمنظار تركيا  كان ولا يزال ذو أهمية بالغة من الناحية الجيوسياسية والإستراتيجية ولا يمكن التخلي عنه طالما أنه تحت سيطرة قوة تعادي تركيا وأمنها القومي، وبالتالي فلها الأولوية في اعتباراتها واهتماماتها لضمان أمنها أولاً، وكذلك التأكيد على موقفها من المسألة السورية في مواجهة مخططات قد تكون خطيرة على مستقبل المنطقة ومن ضمنها تركيا، ولهذه الاعتبارات وغيرها أصرَّت تركيا على التدخل العسكري والسيطرة على الشمال السوري لإبعاد قوات (وحدات حماية الشعب) من حدودها وجعل المنطقة آمنة بإدارة مدنية من قبل أهاليها، لتكون مهيأة لعودة المهجرين والإقامة فيها بأمن وأمان، أسوة بمنطقة (درع الفرات وغصن الزيتون) وامتداداً لها نحو الشرق وصولاً إلى الحدود العراقية.

ولما كانت المنطقة محسوبة على أنها محمية أمريكية، كان على الحكومة التركية إقامة تفاهم مع القادة الأمريكيين لتفادي أي عمل مسلح قد يحصل بين الطرفين عند البدء بالحملة، إلا أن أمريكا كانت تراوغ دائماً في موقفها تجاه تركيا وتصرُّ على استمرارية العلاقة مع (وحدات حماية الشعب) التي تشكل القوة الرئيسة (لقوات سوريا الديمقراطية) ودعمها لوجستياً، مع تأكيدها على أن تلك القوات لا تشكل تهديداً على الحدود التركية من الجنوب.

إلا أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن البدء بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا أحدث حراكاً سياسياً وعسكرياً على مستوى المنطقة وجعل دول المنطقة والقوى المعنية بالمسألة السورية تبذل جهوداً لاستجلاء حقيقة النوايا الأمريكية وفهم طبيعة التغيير الذي طرأ على الإستراتيجية الأمريكية بخصوص منطقة الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً، وخاصة بعد ظهور معارضات داخل الإدارة الأمريكية لقرار الرئيس ترامب وانعكاساتها على المصالح الأمريكية في المنطقة.

لكن، وبعد التواصل بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأمريكي دونالد ترامب تم طرح فكرة تأسيس (منطقة عازلة في الشمال السوري) بعمق 20 ميلاً، تساهم في طمأنة تركيا وتحقيق أمنها الإستراتيجي، وتفصل بينها وبين الميليشيات من قوات (قسد) شريك الأمريكان في الحرب على تنظيم (داعش)، ورغم الترحيب التركي بفكرة المنطقة العازلة فإن تفاصيل تطبيقها تبدو أكثر أهمية من أصل الفكرة نفسها، حيث أن المنطقة العازلة أصبحت محط أنظار كلاً من روسيا وإيران والنظام في دمشق مع فتح الحوار مع حزب الإتحاد الديمقراطي لتسليم المنطقة إلى قوات النظام وترك بعض المكتسبات الشكلية لهذا الحزب مع إبعاد فكرة التدخل التركي من جهة، ومن جهة تؤكد تركيا على أن من حقها هي أن تدير المنطقة أمنياً وتسلِّم الإدارة المدنية لسكانها الأصليين مع إبعاد مسلحي حزب الإتحاد الديمقراطي نحو منطقة الجنوب، لكن هناك سيناريو آخر يطرح من قبل بعض الأطراف على أن تقوم قوات من الأمم المتحدة لمراقبة المنطقة وبقرار دولي. كل ذلك يشير إلى أن إنشاء المنطقة العازلة في شمال شرق سوريا سيكون بداية مرحلة جديدة للمسألة السورية.

 

لكن على ما يبدو في المحصلة، نجحت الدبلوماسية التركية في إقناع أمريكا بأن التعامل مع الميليشيات الانفصالية كان خطأً استراتيجيًا فادحاً، وأن تركيا الحديثة ليست مثل تركيا القديمة، حيث أصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاهله أو تخطيه في منطقة يتم رسم خريطتها الجيوسياسية من جديد.

 
Whatsapp